سيناريو اللقاء المُتخيّل واستراتيجية الانكار في أغنيتي " لقيتو واقف منتظر"
وأغنية "قُبّال ميعادنا بي ساعتين"
بقلم إسماعيل السيد أحمد
تُمَثَّل الأغنيتان-موضوع المقال- حالة دفق عاطفي فيّاض غمرتْ مشاعر الكاتبين وقادتهما إلى تخيّل مَشُوب بالرغبة، وهو في تقديري تخُّيل مُوَجَّه أطلاق فيه الشاعران عنان خيالهما ليسرح في مضمار خيال المُتَلَقّي، إذ إنهما يصّوران موعداً افتراضياً قطعه الشاعر ان مع محبوبتهما وحددا زمانه ومكانه، ومن ثّم حفّز الشاعران أنفسهما لجني ثِمار التوقّع الناتجة عن الموعد المتَوهّم، وهَيَّا معهما المُتَلَقّي نفسياً لحضور ذلك اللقاء. فهو دون شك تخيّل خلاّق عبّر فيه الشاعر ان عن رغبتهما في لقاء محبوبتهما بمنظور يختلف تماماً عن رغبات الكثير من شعراء الاغنية السودانية في لقاء محبوباتهم.
المقال عبارة عن مقارنة بين نصين، النص الأول تمثله أغنية " لقيتو واقف منتظر" التي كتب كلماتها الشاعر صلاح حاج سعيد، وأداها ولحنها الفنان الطيب عبد الله، النص الثاني عبارة عن أغنية "قُبّال ميعادنا" التي كتب كلماتها الشاعر تاج السر عباس، وأداها ولحنها الفنان خليل اسماعيل، تتضمن المقاربة بين النصين في ثناياها عدة موضوعات منها: تخيّل كل من الكاتبين للقاء افتراضي لمحبوبته في موعد حددا زمانه ومكانه، وكذلك تتضمن المقاربة البحث عن الأسباب والدوافع التي دعتهما لتخيّل ذلك الموعد، بالإضافة إلى استخدام كل من الكاتبين للانكار كاستراتيجية نفسية دفاعية لتجنبهما صعوبة مواجهه حقيقة عدم حضور محبوبتهما للقاء (الشرة). هذا بالإضافة إلى رصد مشاعر واحاسيس الكاتبين اثناء لحظات انتظار قدوم المحبوبة للقاء، وتَقَفّي خطاوي رجعتهما من الموعد الافتراضي دون لقاء محبوبتهما، وأخيراً يحاول المقال الإجابة على عدد من الأسئلة لمعرفة ما إذا كان هنالك وعداً حقيقياً بين كل شاعر ومحبوبته باللقاء، أم أنهما تَخيّلا ذلك؟ وهل ذهب كل من الشاعر ين لملاقاة المحبوبة في الزمان والمكان المحددين للقاء؟، وهل كانت محبوبة أي واحد منهما في انتظار منْ وعدته باللقاء؟ أم إنهما اخلفتا الوعد ولم يأتيا للقاء كما عبّر كلاهما عن ذلك؟
من خلال قراءتنا لنص أغنية "لقيتو واقف منتظر" يمكننا أن نستشف بأن كاتبها أفرط في عشق محبوبته لدرجة يمكن وصفها "بالهوس العاطفي"، نتج عنه تخّيُل لموعد وهمي تخيّله الشاعر ليشبع به رغبته في لقائها، لاسيما وإنه لا يستطيع تحقيق ذلك في الواقع المجّرد.
لقيتو واقف منتظر
تشتاق عيوني لطلعتو
وبذات الشوق الذي حدا بكاتب أغنية "لقيتو واقف منتظر " لمشاهدة محبوبته (تشتاق عيوني لطلعتو)، هو نفسه الذي دفع كاتب النص "قُبال ميعادنا" أن يتوهم ذلك الموعد بشوق فيّاض. ومن هنا يمكننا القول بأن الشوق هو الدافع الحقيقي لهما وراء اختلاق اللقاء الوهمي.
وطالت وقفة الأشواق
معاي جمب المكان ذاتو
فأَشْرِعَة الاشواق تبحر باحلام الكاتبين بعيداً في بحور الخيال، ليتأمل كل منهما لقاء محبوبته في فضاء افتراضي، ليشبع كلهما رغباته التي قُمِعَت بسبب رقابة الأهل، وكُبِتَت بدعاوى تقاليد المجتمع التي لا تسمح بذلك، ولذا وجد الكاتبان ضالتهما في أحلام اليقظة.
حيث عبّر كاتب نص أغنية "لقيتو واقف منتظر " عن لحظات اللقاء المَتَوهّم بأنها لحظات شجية، تهفو وتتلهف لها كل الأمكنة وليست نفس الكاتب وحده.
واعدني بي لحظات شجون
تشتاقا كل الأمكنة
ولتعزيز مفهوم التخّيل استخدم كاتب أغنية "لقيتو واقف منتظر “أسلوبي التبرير والبرهان، حيث استخدم التبرير لتقديم تفسير منطقي ومعقول لدعم فكرة صحة اعتقاده بأن المحبوبة حددت موعداً للقائه، وكذلك أسلوب البرهان وذلك من خلال تقديمه لبعض الأدلة (اوصاف المحبوبة) لإثبات صحة تخيله.
نفس الملامح والشبه
والمشية ذاتا وقدلتو
واللفتة والتوب والقوام
اوصاف حبيبي وروعتو
في حين أن كاتب نص أغنية "قبال ميعادنا " ذهب أبعد من ذلك، حينما طلب من المتلقي أن يتخيل مشاعره وهو في انتظار لقائها، كما طالبه أن يتصور عودته من الموعد دون لقائها وهو ممتلئ بشجون الفشل واوجاع الخذلان، مما جعله يقضي ليله ساهراً ومعذبا من ذلك.
تخيل كيف مشاعري أنا ** أنا المصلوب على الميعاد
أعود كيفن ملآن غربة ** وأشيل الليل عذاب وسهاد
وإذا نظرنا لاستخدام الأسلوبين (التبرير والبرهان) من الناحية الجمالية، وبعيداً عن الأغراض التي من أجلها تم استخدامهما كما بيّنا ذلك سابقاً، نجد إنهما ساهما في اخراج المشهد بشكل درامي رائع زاد من قوة تفاعل المُتَلقي معه، وجعله في تناغم بديع مع المشهد.
ويستغرق شاعر أغنية "لقيتو واقف منتظر "في تخيله مخاطباً قلبه (لكنو يا قلبي الحنين) في محاولة لطمأنته، وإيقانه بأن المحبوبة ستكون في انتظاره بلهفة كبيرة، وشوق تراكمت عليه السنين (راجيني بي شوق السنين)، ليدرئ عن نفسه شعور القلق واحساس التوتر المرتبط بحرمانه من اللقاء.
لكنو يا قلبي الحنين
راجيني بي شوق السنين
ولكن سرعان ما يستفق كاتب النص من يقظة أحلامه، عندما يصطدم بواقع أليم يجسده عدم حضورها في الموعد والمكان المحددين، ويصاحبه شعور بخيبـة الامل وحسرة الإحباط. وكلمة (آه(خير ما يفسر ما ذهبنا إليه.
لكنو آه يخلق من الشبه أربعين
استخدم كل من الكاتبين الانكار كاستراتيجية نفسية دفاعية لتجنبهما مواجهة الحقيقة المؤلمة، ولذا فهما ينكر ان حقيقة غيابهما في الموعد المَتوهّم، ويعتقدان اعتقاداً راسخاً بحضورهما في الموعد المُحَدَّد، فكاتب نص أغنية "لقيتو واقف منتظر “ينكر مجرد فكرة أن تطوف بذهنه مسألة غياب المحبوبة ناهيك عن حدوث أمر الغياب نفسه، ولذا نجده لجأ لحيلة الانكار لحمايته نفسياً من التوتر الناجم عن عدم مقابلة المحبوبة له
قصة يغيب ما اظن تكون
وما أظن تطوف يوم في اعتقاد
أما أغنية " قُبال ميعادنا " فإنها تُعّد من الأغاني التي تجسد قمة حالة الانكار - في تقديرنا-، إذ بلغ الانكار بكاتبها مبلغ جعله يغالط نفسه وبإصرار في عدم حضوره للقاء، وليست محبوبته.
أغالط نفسي في أصرار
وأقول يمكن أنا الماجيت
تعامل كاتب نص أغنية " قبال ميعادنا" بفلسفة أن الإنكار أول مرحلة من مراحل التكيَّف مع الصدمة، فعند حدوث الصدمة لديه المتمثلة في عدم حضور المحبوبة في الموعد المقطوع (وياريتك ما وعدتينى** وياريتنا نحن كنا بعاد)، حاول جمع مشاعره وضبط انفعاله (وبرضي رجعت متصبر) ليواجه الصدمة بذلك بصورة مباشرة، وبمجرد مواجهته لها نجده تدريجياً يدخل في مرحلة القبول والتكيَّف مع الواقع الملموس وليست الواقع المجّرد (معاي خطواتي راجعة البيت).
وياريتك ما وعدتينى ** وياريتنا نحن كنا بعاد
وبرضي رجعت متصبر ** معاي خطواتي راجعة البيت
مارس كاتب أغنية "لقيتو واقف منتظر" قدراً كبيراً من الإنكار وعدم اعترافه بعدم وفاء المحبوبة بوعدها، الأمر الذي جعله يواصل سلوكه الانكاري وهو ينتظر قدوم محبوبته الذي طال امده (راجيك وانت عليّ مطول)، وبحثه عنها في كل البيوت (امشي واكوس في كل بيت) وسؤال صاحباتها عنها (واسأل صحابو وكل زول) وعلى الرغم من ايقانه بعدم حضورها، إلا إنه يحاول أن يتجنب مشقة الحقيقة من خلال الخداع النفس لتجنب الواقع المؤلم (بقول ارجاه في نفس الميعاد)
انا ديمة يا أجمل ميعاد
راجيك وانت على مطول
امشي واكوس في كل بيت
واسأل صحابو وكل زول
يقول لي هنا هسه كان
عنك بيسأل وليك بقول
ارجاه في نفس الميعاد
ما اظنو تاني عليك مطول
حفل كل من النصين بدوافع التبرير، حيث لجأ كاتبا النصين إلى اختلاق الاعذار تفادياً لمواجهة الموقف الحرج، ومحاولة منهما للهروب من تأنيب الذات وقلقها، بالإضافة إلى اسكات الصوت الخافت في دواخلهما بأن الواقعة هي مجرد تخيّل لموعد متَوهمّ. فضلاً عن سعيهما الحثيث لتبرئه المحبوبة -في كثير من الاحايين- من عدم ايفائها بالوعد.
خاض كاتب نص أغنية " لقيتو واقف منتظر" صراع داخلي من أجل خلق اعذار تجنبه حرج الموقف، ولكن سرعان ما انتصرت فيه رغبته على ذاته، من خلال اختلاقه لمبررات لمحبوبته لعدم حضورها، ومن ثمّ رَكَن الكاتب إلى حيلة تأنيب الذات للهروب من لوم وتأنيب المحبوبة (يا ربي جيت قبل الميعاد)، ولم يكتفي الكاتب بذلك بل أستخدم التبرير كمنْسَج حاك فيه خيوط الأعذار والأسباب التي تبدو للمتلقي بإنها مقنعة ومنطقية في وهلتها الأولى(ولا الزمن غفلني زاد)، بيد إنه وفي قرارة نفسه يدرك بأنها ليست الأسباب الحقيقية والدوافع الفعلية وراء غياب المحبوبة عن الموعد المُتخيّل.
يا ربي جيت قبل الميعاد
ولا الزمن غفلني زاد
وعلى ذات النهج سار كاتب نص أغنية "قبال ميعادنا" حينما عمّد على استخدام التبرير ليجنبه فداحة الاعتراف بخيبة الأمل، ونسب فشل اللقاء لعدم حضوره وليست لعدم حضورها.
وأغالط نفسي في أصرار
وأقول يمكن أنا الماجيت
عانى كل من الكاتبين من صعوبة ملل لحظات الانتظار، لاسيما في ظل تقاليد مجتمع تجعل أمر اللقاء غير ممكناً إن لم يكن مستحيلاً، ولذا نجدهما متطلعين لبوارق أمل ولهفة عشق وسرابيل شوق، للحظات انتظار يشوبها مزيج من التوتر والقلق والرجاء والخوف، ولذا عبّر كاتب نص أغنية " لقيتو واقف منتظر" عن تخوفه من أن تطول لحظات الانتظار
انا ديمة يا أجمل ميعاد
راجيك وانت عليّ مطول
لقد أدْرَكت خشية ملل الانتظار كاتب نص أغنية "قبال ميعادنا" فجعلت مصلوباً على خشبة الميعاد (أنا المصلوب على الميعاد)، ولم يكتوى بنيرانها وحده، بل شاركته في ذلك رعشة ظلال الليل، والتي ارتعدت من هول الانتظار، فأصابتها الرعشة التي لازمتها طوال مدة الانتظار، فأصبح لظلال الليل رعشة تخفق مع خفقات قلبه الحزين.
أنا ورعشة ظلال الليل ** وقلبي حزينة دقاتو
بعد أن فشل الكاتبان في لقاء محبوبتهما في الموعدين – وإن كانا متخيلين- عادا بخفي حنين إلى منزلهما، ومن هذا المنعرج يمكننا تتبَّع حالتهما النفسية والشعور الذي لازم كل منهما من خلال نصوص الاغنيتين، فكاتب نص أغنية "قبال ميعادنا" يتساءل عن كيفية العودة إلى بيته ونفسه مليئة بالإحساس بالغربة والشعور بالوحدة، وبسببهما يقضي ليله ساهراً ومعذباً.
أعود كيفن ملآن غربة
وأشيل الليل عذاب وسهاد
وأخيرا يرجع متصّبراً و-ليست صابراً- وتتبعه خطوات خيبة الامل وعدم الامتثال للواقع الملموس من خلال نكرانه ورفضه له.
وبرضي رجعت متصبر ** معاي خطواتي راجعة البيت
وأغالط نفسي في أصرار ** وأقول يمكن أنا الماجيت
أما كاتب نص أغنية "لقيتو واقف منتظر" غفل راجعاً يبحث عن لقاء حقيقي بعد أن اعيأه انتظار اللقاء الوهمي.
امشي واكوس في كل بيت
واسأل صحابو وكل زول
يقول لي هنا هسه كان
عنك بيسأل وليك بقول
ارجاه في نفس الميعاد
ما اظنو تاني عليك مطول
يحاول المقال الاجابة على سؤال جوهري هل الموعد الذي تناولاه الكاتبان هو موعد حقيقي أم إنه من وحي خيالهما؟
في تقديرنا بأن موعد اللقاء الذي تناوله الكاتبان في نصيهما ما هو إلا موعد مُتخيّل وليست موعداً حقيقياً، ويؤكد ما ذهبنا إليه من فرضية هو أن شاعر أغنية "لقيتو واقف منتظر" ظل يبحث عن محبوبته في بلدان كثير (كايس عليهو بلاد بلاد) ولو كان يدرك مكانها لِما بحث عنها في البلدان كثيرة. فكيف يتأتَّى له أن يحدد موعداً معها دون أن يلتقي بها، ويسعى طائفاً بين البُلْدان آملا في وصالها.
جاييهو من مشوار بعيد
كايس عليهو بلاد بلاد
كما إنه أشار ضمناً إلى عدم معرفته ومحبوبته بموعد اللقاء، ويصفه بتقادم السنوات عليه، الأمر الذي جعله يسبح في بحر الانتظار، وهذا يدحض فكرة بأن هنالك لقاء تم الترتيب له من قِبلهما.
من كم سنة
لا هو عارف، لا أنا
سايبني في بحر انتظار
ما عدى في ليلو الهنا
وما يؤكد عدم لقاء كاتب نص أغنية "لقيتو واقف منتظر" لمحبوبته عايناً هو اشارته إلى أن مرسالها دوماً يخبره بأن ينتظره في نفس الميعاد.
مرسالو لي دايماً بقول
ارجاهو في نفس الميعاد
هذا بالإضافة إلى أن صويحبات محبوبته يخبرنْ كاتب النص بانتظارها في نفس الميعاد، ولو كان موعداً غير افتراضي لقابلها عنده وانتهى الامر بذلك.
ارجاه في نفس الميعاد
ما اظنو تاني عليك مطول
على عكس كاتب نص أغنية "قبال ميعادنا " فهو يدعي مقابلة محبوبته قبل ساعتين من موعد اللقاء المُتخيّل
قبال ميعادنا بساعتين ** أبيتو أنا وأباني متين
إلا إنه لم يذكر صراحةً بأنها وعدته باللقاء، وعلى الرغم من ذلك ذهب إلى لقاءها في زمان ومكان من بنات افكاره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق