عبدالحفيظ مريود بدون زعل
هل يمكنك العودة إلى الخرطوم الآن؟
صديقنا وحبيبنا عماد الباشا رباطابى/عبابسى من قرية "ندى"..لكنه أدروب كامل الدسم وذلك لأنه تربى فى مدينة "جبيت"، وعاش حياة البداوة البجاوية. يعرف لغة البداويت، بل يعتبر حجة فيها وفى كل ما يتعلق بالشرق.
عماد الباشا فراعى..خريج جامعة القاهرة فرع الخرطوم، ثمانينات القرن الماضى. وأحد شهود العيان على موت "الشهيدين" بلل والأقرع، شهيدى أحداث الفرع، واللذين يتهم الاسلاميون ياسر عرمان بقتلهما..عماد الباشا فى مرة من المرات - بعد رواج قصة أن ياسر عرمان مجرم - كان يتحدث إلى شباب اسلاميين فى محفل خاص..سرد روايته..القصة التى كان حاضرا تفاصيلها ويعرف من قتل "الشهيدين"..حين فرغ من المحفل، تلقى توبيخات تنظيمية وأوامر واضحة بعدم "ذكر ما جرى"، أبدا..كما سمى جمال الغيطانى إحدى رواياته. التنظيم قال إن من قتلهما هو ياسر عرمان، إذن هو ياسر عرمان...
شايف كيف؟
عماد الباشا مقيم فى مدينة شندى، الآن..
لطيف، حلو المعشر، صافى القلب، كالأطفال..يمكن لأى أحد أن يتحقق من ذلك..تنطمر الحقائق فى رمال تتكاثب، فيصبح الحصول عليها ضربا من المستحيل. ينكتب التأريخ وفقا للرواية السائدة..ولأن السودانيين يحبون الترطيب وينفرون من التعب، فلن يقدم أحدهم على التحقق من شيئ..تسمع الحكاية، تزيد عليها من عندك، وتصدرها للآخرين.
شايف كيف؟
عماد الباشا عام ١٩٨٨م، جاءه صديق صحافى وكاتب سعودى، اسمه محمد الصفار. الصفار فى زيارته للسودان، كان مصرا بعد أن تفرج على الخرطوم الراقية، أن يزور المناطق البسيطة الفقيرة..فنظم له عماد الباشا وأصدقاؤه زيارات لهوامش الخرطوم..بعد الزيارات قدم ملاحظة دقيقة ( سيجرى عليكم ما جرى فى زنجبار، إذا لم تتداركوا الفوارق الهائلة هذه).
لم يهتم أحد - بالطبع - لملاحظته...الجميع لا يعرف السودانيين..ذلك أننا شعب طيب، متسامح، صبور، متدين، يقدم قيمه ومبادئه على كل شيئ...وليس هناك من "فوارق" فى مجتمعنا..
هل ننتظر واحدا سعوديا - كمان - ليقول لنا كيف نتعامل مع مجتمعاتنا؟ كيف ندير اختلافاتنا وفوارقنا الطبقية؟
شايف؟
يستحضر عماد الباشا ملاحظات صديقه السعودى كلها، عام ١٩٨٨م، فيما نتحادث محادثات طويلة، بداية الحرب..يتصل بى من شندى قلقا، متسائلا بذكاء مكين...بقلب حريص على العدل (يا مريود نحنا ممكن نكون فرطنا بشدة فى العدالة الاجتماعية..لكن بفتكر إنو ممكن نلحق الحاجات الباقية...لأنو النسيج الاجتماعى عندنا لسه فيهو أمل)..
ستزعل - أنت تحديدا - من السودانيين "الآخرين" الذين استباحوا الخرطوم. سرقوا سيارتك/سياراتك...كسروا الخزائن، أخذوا الدهب، الشاشات، اللابتوبات...هذا سلوك لا يشبهنا...وتزعل أكثر حين يخبرك أحدهم أن الستائر المعلقة، السجادات، أدوات تجميل زوجتك، الملابس، الملايات...كلها ذهبت إلى الأسواق..هذا طبعا بعد الثلاجة، الانابيب، الفرن، المايكرويف، وجميع عدة المطبخ واطقم الأشياء النسائية الجميلة.
ولأنهم فعلوا ذلك، فهم ليسوا "سودانيين"..لا يشبهوننا...
لكن الذين ما يزالون فى الخرطوم، سيحدثونك عن أطياف هؤلاء (الذين لا يشبهوننا)..ستكتشف أن كثيرين جدا ممن تعرفهم ضالعين فى "سرقة ممتلكاتك "، والتى لم تعد "تملكها"، كأنما لا يعرفونك...
شايف كيف؟
السرقة خشوم بيوت...
يمكن للدعامة أو مستنفريهم أن يكسروا البيت...بإرشادات من بعض شباب الحى، الأحياء المجاورة..بأن هناك سيارة، بوكسى ، أكثر من سيارة..والمرشد - الذى هو من ناس الحلة - سيكون قد قبض ثمن "المعلومة"..فى الدخلة هذه، ستفقد سيارتك، دهب زوجتك، دولاراتك أو العملات الأخرى الموجودة..
بقية "حاجاتك" ستفقدها لأن الآخرين هم سيتولون الباقى...و "الآخرون" هذه مفتوحة على عوالم كثيرة لم تكن فى حساباتك..
سيخبرك من بقى من المواطنين فى الخرطوم أن هناك أحياء بكاملها، ستصحو صباحا وتتوجه إلى أحياء أخرى لتنظفها من كل شيئ..الأم، الأب، الأبناء والبنات...كل شخص فى المنزل سيخرج صباحا ليأخذ "حقه" من بيتك، عمارتك، دكانك، مخازنك، شركاتك، وكل ما "تملك"...
فى المناطق التى تقع تحت سيطرة الجيش، على قلتها، سيخبرك من لا يزال مرابطا فى الخرطوم، أن الجيش السودانى بنفسه يقوم بكسر بيتك وأخذ ممتلكاتك وبيعها...بعضكم لن يصدق أن (الحارس مالنا ودمنا) يكسر بيوتنا ويسرقنا..وهو جزء من (العمى القومى)..ذلك أن الجيش السودانى كان يفعل ذلك وأكثر، فى مناطق الحروبات...لكن ناس الخرطوم لا يعرفون.
لكنهم يعرفون أن الشرطة السودانية - أفرادا وضباطا - يفعلون كل شيئ مشين : رشاوي، نهب، سرقة، تنسيق مع اللصوص، ضرب متهمين حتى الموت، أحيانا..تلفيق اتهامات لك وحبسك ومحاكمتك، ضرب متظاهرين سلميين، كل شيى، تقريبا...فما الذى يدفعك لتصدق أن الشرطة تفعل ذلك، فيما لا يفعل الجيش والدعم السريع أفعالا مشينة(لا تشبهنا)...
حسنا...
هل تعتقد أن الذى نهبك شخصا لا تعرفه ولا يعرفك؟
الاختلالات الاجتماعية، الناشئة عن انعدام العدالة فى التعليم، البيئة، الفرص، هى جزء من (العمى القومى)..ستسخر - على الوسائط - لأن هناك أميين، لا يعرفون القراءة والكتابة فى السودان..لكنك لن تتوقف للحظة لتتساءل : لماذا لا يزال هناك أميون؟ لماذا لا يزال هناك أناس لا يعرفون الكهرباء ولا الأدوات الكهربائية؟ لماذا لا يزال هناك أناس لا يملكون بيوتا، سيارات، حسابات بنكية؟
ستواصل سخريتك - بالطبع - دون أن تشغل بالك بالآتى : هل ستستمر الأوضاع هذه، فى الاجيال القادمة؟ هل سيتم توريث الفقر، الجهل، انعدام الفرص للأجيال القادمة، فيما يتم توريث نقيضه فى الجانب الآخر؟
شايف؟
لقد تم نهبك - سيدى/سيدتى - من قبل الذين لم يحضروا إلى تفكيرك..الذين هم خارج النظام (السيستم)، الذى تم تصميمه، وليس ثمة من طريقة لاصلاحه، لأن إصلاحه سيكلفك أشياء لا تحب أن تفقدها..ينبغى أن يظل كل شيئ، وكل أحد فى مكانه (الطبيعى).
شايف كيف؟
تأخر الانفجار، جاء فى ظروف غير ملائمة، لبعضهم. ستدخلك حيرة، غضب، غبن، رغبة فى انقضاء الكابوس، رغبة فى الانتقام، ربما، تدابير وإجراءات قادمة، كى لا يتكرر ذلك لك أو لأولادك واحفادك..وذلك طبيعى..لكن يتوجب أن تطور التفكير فى القادم على أسس معالجة جذور الظاهرة/الانفجار. لن يسعفك الارتكاز على (العمى القومى)..
العمى القومى قد يخدعك: الجيش، أبطال هيئة العمليات، البراء بن مالك ومسيلمة وإبن سلول سينظفون الخرطوم والسودان عامة من الجنجويد...سنسترد ممتلكاتنا المنهوبة...سنقدم من بقى من الجنجويد على قيد الحياة للمحاكمة..أو نقطعهم إربا بسكين البصل..
وذلك لأن هناك آلة تضخ باستمرار، فيما أنت نازح فى شندى، عطبرة، كوستى، مدنى، بورتسودان، كسلا....الخ..أو أنت لاجئ فى مصر، تشاد، إثيوبيا، ارتيريا بأن (الجيش يمشط المنطقة الفلانية أو يدمر ٦٥ تاتشر دعم سريع ويقتل ٣٥٠ منهم) أو ( العمل الخاص يذبح ٢٧ متمردا فى جبرة، حى النصر، المنشية)...
ستنتفخ...وتتلمظ...(دا ما جيش بداوس)...وربما تحدثك نفسك أن تكلف قصيدة فى مدح الجيش...
لكن سيصدمك شخص مقيم فى الخرطوم بأن ذلك كله (طلس)..وأن لا شيئ على الأرض.
عليك أن تعيد ترتيب ذهنك...كيف ترجع إلى الخرطوم؟
وحين ترجع كيف تبنى بلدا محترما، حكومة مسؤولة، مؤسسات قومية من جيش، شرطة، أمن وكل شيئ..ذلك هو ما يضمن أن "ممتلكاتك" لن تنهب فى الحرب القادمة، ولا ممتلكات أبنائك وأحفادك..
شايف كيف؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق