الخميس، 26 أكتوبر 2023

صديقتي الشاعرة

 * صديقتي الشاعرة التي لا يعرف قصائدها أحد (2): 

....................................................................

     بعد أن نشرتُ الجزء الأول مِن هذا المقال الأسبوع الماضي، جلستُ مع السيدة الوالدة الكريمة جلسة صفاء مِن الجلساتِ اللائي لا يأتينَ كثيراً. وسيدتي الوالدة حفظها الله كانت قد تَلقًّت تعليمها الأول بمنطقة (أبو جير) الواقعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط؛ في الناحية الشمالية الغربية بأرضِ جارتنا مصر، حيث كان والدها يعمل ضمن قوات خفر السواحل هناك. 

     كان مِن قَدَر الوالدة الجميل أنها أصبحت شاهدة - رغم صِغَر سنها آنذاك - على كل تحولات الأمة العربية الكبيرة في فترة أواخر الخمسينات وأوائل الستينيات.. وبالتالي كان حديثها عن الأدب والأدباء في تلك الفترة هو ما غرس فينا حب الأدب، بل وجعل مصيرنا المحتوم هو أن نسير في دروب الأدب وطرقاته تسبقنا الآمال والأحلام بكلماتٍ صادقة وحروفٍ خافقة. 

     في جلسة الصفاء تلك مع السيدة الوالدة أخبرتُها بأنِّي كتبتُ مقالاً عن شِعر قريبتنا هادية ونشرتُه عبر الأسافير، فأخبرتني متعها الله بالصحة والعافية بأمرٍ غريبٍ يخص قريبتنا الشاعرة هادية ومَلَكتها الطبيعية في إبداعِ الشِّعرِ ونظمِهِ، قالت الوالدة بأنَّ ابنتها - شقيقتنا الصغرى - قبل عقودٍ نشأت صداقة بينها وبين هادية، وفي عصرِ يومٍ ما.. كانت الصديقتان جالستان تتجاذبان أطراف الحديث، وفجأة.. بدأت السماءُ تمطرُ مطراً خفيفاً، مِمَّا جعل هادية تتعلقُ عيناها بِحَبًّاتِ المطر لدقائق قبل أن تقول: 

وفي يومٍ غمام مسائه ممطر 

حلمتُ بفجرِكَ الأنضر 

عناق الزهر والأفنان 

في البيدر 

دفء الروح 

عمق الحب 

كاسات من الكوثر 

إلى آخر القصيدة التي نشرتُها في الجزء السابق مِن هذا المقال. تقول الوالدة: (إن هذا الموقف يدلُّ على قدرة هادية على الارتجال اللحظي وإرسال الشعر الجميل بداهةً وعلى السليقة، وهذه مقدرةٌ وميزةٌ عزيزةٌ ونادرة). 

     لم أكن قد سمعتُ بهذه الحكاية التي رَوَتها لي والدتي من قبل، رغم عمق علاقتي - الأدبية - بهادية، ولذا.. فإن كلمات الوالدة الكريمة جددت في نفسي الإحساس بقيمة موهبة هذه الشاعرة، ممتزجاً بحجم الفقد الذي وقع بسبب ضياع أدب هذه الموهوبة بالفطرة. 

     هذا الموقف برمته؛ كلمات الوالدة والإحساس الذي غمرني بعدها، جعلني أعود إلى أجواء أدب هادية الآسر، ولكن على نحوٍ أدقّ وأرقّ وأعمق، وهو ما وضعني بلا إرادةٍ وقصد، وبلا ترتيبٍ وإعداد.. أمام كتابة الجزء الثاني مِن المقال عنها، والذي بتوفيقِ اللهِ سأضمٍّنهُ ثلاثاً من قصائدها.. التي وجدتهَا شقيقتي الدكتورة أميرة قبل أيامٍ في أضابيرِهَا وبين دفاترِهَا، والقصائد التي سأقدمها في هذا الجزء هي بالطبع تكملة لما نشرتُه في الجزء الأول:  


القصيدة الثالثة: 

................... 

نجمٌ أنا مُترحِّلٌ 

جهلَ الزمانُ هَوَيَّتِي 

تتسارعُ الأشواقُ والأحزانُ 

قَيدَ نواظرِي 

فتزيدُ رَوعَةَ مُهجتِي 

دربي على أملِ الحياةِ ممزقٌ 

أتسلقُ الآلامَ متعبةً 

أغالبُ دَمعتِي 

الريحُ تصرخُ في دَمِي ملتاعةً 

يدوي.. 

جنونُ الدهرُ في قلبي 

أموتُ بِلهفتِي 

طيرٌ أنا مُتَنقِّلٌ 

غدرَ الزمانُ بِفَرحتِي 

فرحلتُ فوق الغيمِ 

أبحثُ عن مدى 

عن عالمٍ يُسبي مشاعر لَوعتِي 

عن واحةٍ 

عن معبدٍ 

أرعى به كل الشموع تَضَرُّعَاً 

وأضمّكَ الساعات عِطراً خالداً 

يحنو بقلبي.. جَنًّتِي  

أبكي عذابي.. وُحدَتِي 

إذ أنَّنِي

ما زلتُ قلباً ضائعاً.. 

خانَ الزمانُ لِخَفقَتِي

نجمٌ 

أنا 

مُترحِّلٌ 

جهلَ الزمانُ هَوِيَّتِي 

القصيد الرابعة: 

.................. 

يا حبيبي 

ليس يُجدينِي التَّمَنِّي 

فقطارُ العمرِ وَلَّى 

وكذا الأحلامُ مِنِّي 

أنا لن أنسى 

بأنِّي كنتُ في مِحرَابٍكَ القدسِيّ 

أرسمُ للهوى صرحاً وأَبنِي 

أنَّ ريحاً تهدمُ الأحلامَ يوماً.. 

لم يكن هذا بظنِّي 

أنَّ دهراً يطمسُ الأنغامَ غدراً 

وأنا أشدو أغنِّي 

أنَّ ليلاً يرسمُ الأحزانَ سوداءً 

على لوحاتِ فَنِّي 

لم يكن هذا بظنِّي 

يا سنين غادرات 

يا ضفاف يابسات 

يا غيومٌ عابرات 

يا شعاعٌ لاح في قلبي 

قليلاً.. ثم مات

أي دربٍ يا خطاوي حائرات ؟؟؟! 

أي وعدٍ يا أماني تائهات ؟!! 

أي شوقٍ يا عيونٌ باكيات ؟!!! 

كيف لا 

يا حبيبي 

و كل زادي ذكريات

ليت يوماً ما التقينا 

ليت يوماً ما وًعَينا 

نشوةَ الحبِّ... 

و لا عهداً رَعَينا 

وافترقنا يا حبيبي

قَضَى الحبُّ.. 

في المهدِ

وليداً

في يدينا 

القصيدة الخامسة: 

....................... 

وتبقى قصتي 

كالخنجرِ المسمومِ 

يأكلُ لحمَ خاصِرتِي 

يمزِّقنِي 

وتسحقني سويعات الغدِ المجهولٍ  

في إشراقها دوماً 

وتبصُقُنٍي 

فأسقطُ فوق وهمِ الوهمِ 

والأحزانِ 

والوًهَنِ 

وتبقى قصتي معكَ

كأطيارٍ بلا وَطَنِ 

صَدَى حلمٍ تبعثرُهُ 

رياحُ الشكِّ والتلفيقِ 

والفِتَنِ 

ويختلقونَ كالأطفالِ أعذاراً 

يختبئون في.. 

مستنقعِ التزييفِ والعفنِ 

     مَن يُصدِّق أنَّ هذه القصائد كُتبتْ قبل نحو ثلاثة عقودٍ ونصف، مَن يُصدِّق أنًّ هادية قد أبدعت كل هذا الجمال وهي يانعةً غضة، في مُقتبلِ العمر، وبدايةِ المشوار، ومُفتتحِ آفاقِ الحياة. ماذا لو لم تتوقف هادية عن الكتابة؟ ماذا لو استمر هذا الشلال العذب الأصيل في التدفق؟ أي جمالٍ كان سيخرجُ إلينا من قريحتِها الصافية؟ أي إبداعٍ كان سيأتي إلينا مِن إحساسِها الخاصّ الشفيف المُنساب المُنهَمِي بلا تَكَلُّفٍ ولا صِنعَة؟ 

     على كلِّ حال، لستُ بحاجةٍ إلى أن أزكيها.. فأشعارُها هي التي تفعل، ولستُ بحاجةٍ إلى أن أقدمها لأحد.. فقصائدُها هي التي تقول كل شيءٍ عنها. تحيتي وتقديري. 

د. فائز أحمد علي 

السودان / ود مدني 

* نلتقي في الجزء الثالث والأخير قريباً إن شاء الله

ليست هناك تعليقات:

مشاركة مميزة

في قعر ركوبة ست الشاي

 في قعر راكوبة ست الشاي جمبت ستنا                             مآآآآآآآ حارتنا  و بِنريدآآآآآآآ    !!!!!!! لبعض الأوباش في حارتنا وحدتنا الذي...

Post