جدل المناهج في السودان..
أي مستقبل للعملية التربوية والتعليمية ؟
في دولة محترمة يحترم فيها القانون وتخضع للحكم المؤسسي، لا يمكن ان يكون تغيير المناهج التربوية والتعليمية رهينة المزاج الشخصي والذوق الخاص والمواقف المتشنجة أو الأيديولوجيا الحزبية. فمن حيث المبدأ، يجب ان تخضع العملية التربوية والتعليمية للاستراتيجية العليا للدولة والاهداف المتوخاة من تلك العملية في الآجال المختلفة لا غير. وينبغي ان يشرف عليها متخصصون في المجال، لا متطفلون اجانب عنه. اية مقاربة اخرى للموضوع يمكن ان يكون حولها ملاحظات وعليها اشكالات ويمكن أن تترتب عليها آثار كارثية.
ولما كنا في السودان لا نمتلك حتى الآن مثل هذه الدولة المشار اليها آنفا، يخضع كل شيئ عندنا لتقلبات الحكم وإرادة الحاكم أو الهيئة الحاكمة، بما في ذلك المناهج التربوية والتعليمية. على سبيل المثال قام دكتور محيي الدين صابر في سبعينات القرن المنصرم وبمبادرة شخصية بتغيير السلم التعليمي وأحدث تغييرات كبيرة يمكن أن تسمى إعادة صياغة للمناهج والتي تضمنت الغاء مادة التربية الدينية من مقرر امتحانات الشهادة الثانوية. وقد ادى ذلك وفقا لرؤية بعض المهتمين بالشأن التربوي والتعليمي الى تدهور التعليم في السودان. وهنا لا نخفي قناعتنا بأن المناهج في ذلك الوقت كانت بحوجة ماسة للتغيير والتطوير. كما أننا لا نشك في مقام الرجل العلمي وكفاءته، فهو حائز على إجازتين في الآداب والإجتماع وتسنده تجربة وخبرة في مجالات مختلفة ومؤسسات عدة من ضمنها اليونسكو. وكل ذلك لا يشكل محور النقاش هنا. المسألة الأساس هي هل كان التغيير الذي أحدثه دكتور محيي الدين صابر نحو الأفضل أم نحو الأسوأ واقعا وحقيقة ؟ وهل كان ذلك التغيير مدروسا دراسة جيدة أم انه كان تصرفا مرتجلا لا تعرف عواقبه ومآلاته ؟
وإلى هذا الحد لابد من الإشارة إلى انه لم تمض سوى سنوات معدودات حتى خضعت المناهج لتغيير آخر في العهد المايوي٠
اما في العهد الإنقاذي فقد خضعت المناهج أيضا لتغييرات كبيرة، لكن بكل أسف كانت تلك التغييرات ذات منحى سلبي الى حد بعيد، وتبدو الآن آثارها واضحة. والظاهر أن محاربة التعليم كانت هدفا لبعض أطراف الحكم يندرج ضمن أهداف الحرب المعلنة على بعض مكونات الدولة. والشاهد على ذلك إهمال مؤسسات التعليم من مدارس وجامعات وإهمال المعلم والتلميذ والطالب بصورة منهجية ومتعمدة. ويضاف إلى ذلك مناهج ضعيفة مؤدلجة تنضح بقيح وسموم الطائفية الوهابية وتشتم منها رائحة البترودولار. ولم يكن التطور والمواكبة، ولا المعلم المؤهل مهنيا وأخلاقيا من الاهداف التي تهدف إليها الوزارات المسئولة عن العملية التربوية والتعليمية في البلاد. وشاهد آخر ذو دلالة أوضح هو أن ميزانية التعليم كانت تشكل ما نسبته ٢% من الموازنة، وهو إمر لم أكن لأصدقه لولا ما نشرته مجلة الدعوة الصادرة عن منظمة الاغاثة الاسلامية المرتبطة بالنظام الأنقاذي في أحد أعدادها الصادرة قبل ما يزيد عن خمسة عشر عاما.
إن إستنزاف الموارد المحدودة للأسر في عملية تعليمية لا تعود بعائد ومردود حقيقي على الطالب ولا تؤهله للانتاج مستفيدا من الموارد المتاحة أو المنافسة في سوق العمل العالمي شديد المنافسة والتعقيد لهو جرم لا يغتفر.
الآن الآن المناهج بحوجة الى تغيير بحكم التغيرات الهائلة التي طرأت على الحياة والتي فرضتها الثورة الرقمية. هذا بالإضافة إلى التحديات الكبيرة التي تواجه السودان حاليا ومستقبلا. وعملية التغيير المطلوبة هي بكل تأكيد ليست على غرار ما يطمح اليه مديرما يعرف بالمركز القومي للمناهج. يقينا ليس ينقص السودان مناهج تربوية من منظور جمهوري لتحل محل مناهج من منظور طائفي وهابي. فدكتور القراي مهما حاز من شهادات علمية وراكم من خبرات عملية لا يمكنه فرض مناهج من منظوره الخاص او من وحي فكره الحزبي، فالمسألة تتعلق بمصير أجيال ومستقبل وطن. القضية لا تحتمل سفه الرأي أو المجاملات أو الرضوخ للإملاءات التي مصدرها خارج الحدود.
صحيح تماما أنه ليس من رسالة مؤسسات التعليم المدني تخريج حفظة قرءان أو فقهاء على المذهب المالكي أو الوهابي. وصحيح أيضا أنه ليس من الأمانة العلمية تسميم عقول الطلاب بتاريخ مزيف يخفي كثيرا من الحقائق ويمجد الماضي على علاته ونواقصه ونقاط ضعفه. وصحيح أيضا أن الإسلام ليس ديانة تقوم على التلقين والإستظهار والايمان الأعمى، بل هو رسالة للتعقل وتنوير للعقل وتحرير للفكر والإرادة من التقليد والجمود. ولكن لنا أن نسأل مدير المركز القومي للمناهج وفريقه العديد من الأسئلة، من ضمنها على سبيل المثال، ما الموجب لإقحام لوحة خلق آدم للرسام الايطالي مايكل انجلو ضمن مقرر دراسي يخص السودان ؟ هل المقصود هو الترويج لعبادة الرجل الأبيض في السودان والتي فرضها الغرب على العالم بواسطة الحديد والنار والخداع والدين المحرف. فهذه اللوحة فوق ما تجسده من خرافة وصورة شائهة مبنية على كتاب العهد القديم فهي أيضا ذات حمولة عنصرية من العيار الثقيل. فراسم اللوحة والجهة التي رسم لها كانوا على إدراك كامل ووعي تام بحقيقة ذلك العمل الفني وما يجسده من مضامين. فالله هو رجل أبيض وآدم رجل أبيض وحواء إمرأة بيضاء والملائكة نساء بيضاوات. فالغرب منذ عهد صحوته المسماة عصر النهضة طور أيديولجيته الخاصة به وعزم على نشر ديانة عبادة الرجل الأبيض في العالم. إن الترويج لأفكار التافهين المنحطين من معتنقي أفكار المركزية الأوروبية في الغرب، من خلال التعبير الفني الكلاسيكي، وعبر مناهج دراسية سودانية، هو أمرلا يمكن قبوله؛ لأنه يجانب الصواب ويفتقر إلى الحكمة واللياقة.
إن أفكارتميز وتفوق العرق الأبيض على جميع شعوب العالم تم وأدها في موطن نشأتها بفضل ثورة الإنترنت التي أتاحت المعرفة لمن أراد، ويسرت سبل الوعي ومهدت طريق الرشد للبشر إن رغبوا. في عصرنا الراهن تكشفت أكبر عملية تزييف وتضليل قام بها الغرب الإمبريالي فيما يخص تاريخ البشرية، ونحن لا نزال نروج لعبادة الرجل الابيض عبر مناهجنا الدراسية.
عملية تغيير وتطوير المناهج الدراسية ليست ضرورة في السودان وحسب، بل أصبحت ضرورة حتى في الدول المتقدمة صناعيا. ففي فرنسا مثلا اقترح الرئيس ساركوزي برنامج إصلاح للتعليم في عهده مما تسبب في احتجاجات طلابية واسعة استمرت لعدة أسابيع وتخللها قدر كبير من العنف. وقامت حينها إحدى قنوات البث التلفزيوني الفرنسية باستضافة مجموعة من أساتذة الجامعات والمختصين بالشأن التربوي والتعليمي وبعض السياسيين وعلماء الإجتماع لمناقشة الأمر. وفي ذلك الحوار ذكر أحد أساتذة الجامعات حقيقة صادمة حيث قال:( المشكلة أن لا أحد من هؤلاء الطلاب الذين يتظاهرون يدرك أنه خلال سنوات معدودات لن يكون هناك أحد يرغب في شهاداتهم ). إذا كان هذا في فرنسا التي لا تقاس مناهجها بمناهجنا الحالية، فكيف يمكن يمكن أن تكون أوضاع الطلاب الذين سيتخرجون على هذه المناهج في السودان خلال السنوات المقبلة ؟
ولنجيب على السؤال من المناسب أن نطرح السؤال التالي: ما هو برنامج الاصلاح الذي طرحه ساركوزي سنة ٢٠٠٧م ؟
بالرجوع إلى مجلة The Economist اللندنية في عددها الصادر بتاريخ ٨ سبتمبر ٢٠٠٧ م وفي صفحة ٣٣ تحت عنوان: التعليم الفرنسي.. العودة الى الدراسة، نجد أن رئيس الجمهورية وجه رسالة من ثلاثين صفحة الى المعلمين يعدد فيها أوجه القصور في المدرسة الفرنسية والتي منها كثرة ما هو نظري وتجريدي في المقرر الدراسي. ويخلص إلى نتيجة فحواها أن لابد لفرنسا من أن تعيد بناء أسس نظامها التعليمي. آما رئيس جامعة السوربون - باريس٤ فيقول: ( إن شهادة الباكلوريا لا تعني شيئا على الإطلاق ). ولا ننسى التذكير هنا بأن شهادة الباك الفرنسية كانت من الشهادات القيمة.
إذا كان وضع التعليم في فرنسا يستدعي إعادة نظر وإعادة بناء لأسسه تستبعد أو تقلل ما هو نظري وتجريدي، علينا نحن في السودان أن نقف وقفة أكثر حزما وجدية؛ لأنه بكل صراحة وصدق تفصلنا عن العالم من حولنا فواصل كبيرة جدا وحتى داخل محيطنا الأفريقي. إذا لم نستوعب الواقع سنخسر المستقبل بكل تأكيد.