الأحد، 3 أبريل 2022

ثلاثية الشاعر ود القرشي

 إضاءات حول ثلاثية الشاعر ود القرشي: ربّ الجمّال وربّ الفن وربّ الشُّعُور 

بقلم: إسماعيل السيد أحمد

أحسبُ أن ثلاث حسناوات شغفنْ قلب الشاعر العظيم والملحن الكبير /محمد عوض الكريم القرشي حباً، سكبتْ انوثتهنْ الدفيئة دفقه العاطفي فجرى شعره زلالاً، وحركت رِقَّة شعورهنْ مناهل ابداعه فتدافع نحوه العشاق إنهالاً، واوقد حسنهنْ شعيلة قناديل خياله فأضاءت سماوات العشق ابداعاً، وداعب حُبهنْ وحي إلهامه فانهمر مداد وَجْده مدراراً، سكب سُلاَف شعره توثيقاً لوصف محاسنهنْ، وتداعت شجي كلماته صبابةً لفراقهنْ، واستوحى عوالم جماله ابتهالاً لرضائهن.  في بهاء هذه الأجواء ورونقها ولدت ثلاثية الارباب الغنائية " ربّ الجمّال " و " ربّ الفن " و "ربّ الشعور “متجاوزة لكافة أنماط الغناء التقليدي السائد وقتئذ، مُتَرَفِّعا بها لسماء مستمع ذَوَّاقٌ، مشرئباً بها في هامات الخلود الابداع، متقدماً بها محراب تجديد الغناء في السودان. 

المقال عبارة عن مقاربة بين مكونات ثلاثية الأرباب الغنائية -إن جازت التسمية-، حيث قدمت الثلاثية وصف تصويريّ للملهمات المشار إليهنْ، وأبانتْ تداعيات غيابهنْ وصدهنْ على حالة كاتب الثلاثية النفسية، وعكستْ ما اعترته من عذابات الصبابة، وشدة الهيام، وكذلك شهدتْ الثلاثية ترقبه لساعات الانتظار، وتشبثه بأهداب رجاء اللقاء، وتعلقه بآمال الوصال لكل واحدة منهن على حدا. باثاً فيها شكواه من ظلمهنْ وهجرهنْ له، ومتوسلاً إليهنْ بفنه وابداعه ابتهالا لرغباتهنْ، كما تحكي عن مضنى جهوده التي بُذِلتْ إرضاءً لملهماته، فضلاً عن تصوّيرها لساعات اللقاء (المتوهمة أو المترقبة)، والتي يعبقها اريج السعادة ويكسوها ديباج الحفاوة احتفاءً بقدومهنْ. 

وصف كاتب النص ملهمته الأولى " ربّ الجمال" بأن سماءها منيرة "الناير سماءه " هذا وصف في حد ذاته جعل منها كوكباً منيراً، يسمو مقامها به ويحسن وجهها بإشراقته وصفاءه، الأمر الذي اكسبها عظمة ومهابة ومنزلة رفيعة " تلمس سر عظمته "، ولذا يمثّل الهروب من ملاقاتها ملاذاً آمناً له “وتهرب من لقاه"، وذلك تَعْظِيماً وتبجيلاً لها.

ربّ الجمال كفاه

الناير سماه

تلمس سر عظمته

وتهرب من لقاه

تتمتع ملهمته ربّ الجمال بأعين جذابة مغرية، ولها فنون شجية إذا ما امعنت النظر إليها أو تحدثتْ إليك أو تحدثتُ إليها أو في كلاهما، إلا أن وصالها يُعد ضرباً من ضروب المستحيل

يغريك بعيونه

ويشجيك بفنونه

ولكن هو المحال

 تتمتع ربّ الجمال بفنون الذكاء العاطفي الذي استطاعت من خلالها امتلاك مشاعر كاتب الثلاثية، ولذلك يقَرن آماله العراض بوصالها والاقتران بها.

المالك شعوري 

أنا ليّ فيه آمال

ربّ الجمال

فإذا كانت ملهمته "ربّ الجمّال" امتلكتْ شُّعُوره، فلديه ملهمة أخرى يكنها ب "ربّ الشُّعُور “واصفاً إياها بأنها الملاك السامي الذي احيا قلبه، بعد أن قتله بئيس حاله.

أنت الملاك السامي

يا ربّ الشُّعُور

احييت قلوبنا

وصف ملهمته "ربّ الفن" بأنها ظريفة، ولذا لم يهوى غيرها، وإنها تتمتع بأخلاق الملائكة الذين وصفهم القرآن الكريم بأن لهم الحُسْنَى من الاخلاق والبِر من الافعال، كما جاء في الآية الكريمة من سورة عبس ( كِرَامٍ بَرَرَةٍ)، ولذا لم يهوى سواها.

ما قصدت أهوى براك

شوفوه يا ظرفه

تعال يا أخلاق الملايكة

ودنيا الحب أسلاكه شايكة 

تعال يا حبيب 

كما وصفها بأنها البدر الباهي المنير الذي انار الدور ببهاءه، وإنها صاحبة الْمَنُّ الذي تعددت أَفْضَاله وكثر إحسانه لأحبابه، وهي حسنة الأُلْفَة، ولم تجور أو تتجنى عليهم. 

أنت بدر الكل يا باهي نورنا

نورت دورنا وبعدت عنا

أنت الحبيب اللي احبابه مَنّا

أنت الاليف الما جار أو تجنى 

وعلى الرغم من أن البعض يرى بأن هذه الابيات نظمها كاتب النص في صديقه باهي نور، إلا إنها في تقديري تم كتابتها في احدى ملهماته. 

شكّل حضور الحسناوات الثلاث في دنيا الكاتب أداة للأبداع الشعري، وكُنْ الباعث الحقيقي لكتابة الثلاثية -وربما غيرها من الاغنيات-، حيث يمثلنْ لحظات الإبداع التي دفعته للكتابة، ولذا يطلب من ربّ الفن أن تكون شاهداً وشهيداً على لحظة مخاضه أشعاره ومولد فنونه، هذا التشريف جعلها أن تكون جزءً أصيلاً من العملية الفنية، باعثاً وحاضراً وشهوداً. 

تعال يا رب الفن يا سيدي

وفيك نظمت الدر نشيدي

تعال يا حبيب آه

اوريك فنوني ** يا وحيها دعوني

اوريك شجوني ** المرسلة بي عيوني

 عبّرت الثلاثية عما يعتصر قلب كاتبها من الآم وجد وعذابات بين وأنات فراق، ولذلك كان الصدق الشعوري هو سمة الغالبة فيها، لا سيما في مجتمع يصعب فيه التصريح بذلك، وذلك لأمرين هما: خشية انتشار سر العشق في مجتمع لا يقر به، بل يجرد سيوف التقاليد من أغامضها لمعاقبة منْ يمارسه، ورماح العادات من بارئها ليقمعه كفكرة شيطانية يجب الابتعاد عنها.

لقد عانى كاتب الثلاثية في المجتمع المشار إليه الأمرَّيْن: عذابات الصبابة وحرقة الشوق، وهما بسبب حرمانه من لقاء محبوبته، هذا من ناحية، وسلاح العادات والتقاليد المسلط على عنقه وعنق كل عاشق ولهان من ناحية أخرى، مما دفعه لمناجاة ملهمته "ربّ الفن" معبراً عن حبه لها، ومتشوقاً لرؤيتها، وشاكياً من عذابات غيابها.

تعال أنا ليك في قلبي ريدة

معذبة تشتاق لي وحيده

هذا بالإضافة إلى تصريحه بما أصابه من إِيذَاء نتيجة غياب ربّ الجمال عنه، ويرى في ظهورها ايقاظاً لأوجاعه والامه.  

ربّ الجمال أذانا

أيقظ لي هوانا 

يتطلع كاتب الثلاثية إلى قدوم ربّ الشعور متقرباً إليها بقلب كسير وأعين دميعه، متسائلاً عن موعد قدومها “لي متين تجينا" وشاكياً إليها من جراحات الفراق والآم البين.

لي متين تجينا

ما شفت ألم الفراق صعب علينا

خشعت قلوبنا ودمعنا كب فينا

ويبلغ العشق بكاتب الثلاثية مبلغاً تتحد فيه ذاته بذات محبوبته، وهو اتحادا يرى فيه المتصوفة بإنه يوجب غفلة المحب شغلا بشهود محبوبه في ذاته بذاته ولذلك ينضب مُعيَّنه كاتب الثلاثية لأن العشق أقصى مقامات الذهول والغيبة. 

اروحنا سكبت فيك 

ونضب معينا 

تكشف الثلاثية عن طبيعة المجتمع الذكوري الذي يرى بأن الشكوى - على عمومية الاطلاق- أمراً يكشف عن ضعف وعجز الرجال، وإنها كثقافة سائدة مرتبطة بالنساء دون غيرهن من الرجال، ولذا لا يود الرجل أن يفصح عن ضعفه سوى لمحبوبته، بيد أن الشكوى إليها تعد بمثابة وسيلة للتعبير عما يختلج النفس من تباريح هوى، وعذابات بين، ورقة شوق، وعبرها ايضاً يتم التنفيس عن النفس بخفض وتيرة المكبوت من قلق وتوتّر وإحباط.  وقد تَوَلَّجَ الشكوى من ثَنَايا استدرار عاطفتها. ولذا يلجأ إليها شاكياً للتخفيف عن نفسه من حدّة الإحباط والتوتّر، وكذلك من قبيل استعطافها واستدرار عاطفتها.

لي مين اشتكيك

أنا المجبور عليك

وعندما تشتد وطئه الوله وتكثر لَوَاعِجُ الْهَوَى يرسل كاتب الثلاثية عتابه للمحبوبة، حيث يعد العِتاب بين المحبين أكبر دليل على المكانة التي تُحظى بها المحبوبة في حياة المحب، فتوجَّيه العتاب من المحب وتقبله من الاخر يدل على مقدار الحب بين المحبين. ولذلك يسأل الكاتب مستنكراً ومعاتباً ملهمته ربّ الجمال.

ليه يا قاسي تنكر

اخلاصنا ووفاءنا 

يستنكر كاتب الثلاثية على ملهمته ربّ الفن عدم تقديرها لما يبذله من جهود وتضحيات في سبيل حبها، وما يعانيه من عذابات لعدم اهتمامها به، ويرى بأن صدودها لا يخرج من إطار نكرانها للجميل وجحدها للمعروف.  

أنا في هوايّ عفيف وباذل

ما بصح تعذيبي واحتقاري 

كتير آه كتير

بل يذهب الغضب بكاتب الثلاثية شَّأْواً بعيداً لعدم تجاوب ربّ الفن معه، وهو أمر يؤلمه، ولن يجد سبيلاً سوى تحذيره لها من مغبة تركه لها. 

حذاري تألمني حذاري

كثير يا الليك ما طاب مذاري 

يلجأ كاتب الثلاثية لحيلة الاسقاط النفسي لاستبعاد المواقف النفسية المؤلمة عن حيز شعوره، ولحماية نفسه من التوتر الناجم عن عدم تجاوب ملهمته ربّ الفن معه، ويمارس الاسقاط من خلال إلصاق فشله وعجزه في تجربته العاطفية مع ربّ الفن، ويصوّر بإنه هجرها من تلقاء نفسه " وأقول ليك هجرتك" في حين أن الواقع يروى خلاف ذلك، وإن المحبوبة هي التي هجرته، وما يعضد ما ذهبنا إلى شكواه، ومعاتبة لها في أكثر من موقع. 

وأقول ليك هجرتك

وتكفي الذكرى عنك. 

ولإعادة التوازن النفسي أراد الكاتب بأن يكتفي بتخليد ذكرى التجربة العاطفية مع ملهمته ربّ الفن " وتكفي الذكرى عنك “. بيد أنه هذه الذكرى ستكون مكبوتة في لاوعي الكاتب نتيجة لارتباطها بصدمته النفسية. 

وأقول ليك هجرتك

وتكفي الذكرى عنك

يراود كاتب الثلاثية الاحساس بأوهام الاضطهاد من خلال شعوره بتعذيب واحتقار الملهمة له "يصح تعذيبي واحتقاري، كتير آه كتير "، ومن ثم يرى في لغة التهديد والوعيد "وأقول ليك هجرتك" و"حذاري تألمني حذاري" استراتيجية نفسية يستخدمها عقله الباطني كملاذ نفسي يحمي به ذاته من التوتر الناجم عن مشاعر الاضطهاد(الاحتقار) المرفوضة، و ربما يساعده على خلق صورة لنفسه تكون أكثر قبولاً من الناحية الاجتماعية. 

ولكن على الرغم من كل ذلك، فأننا لا ننكر بذل عظيم جهود كاتب الثلاثية لخلق شعور إيجابي لإنجاح علاقته العاطفية مع ملهماته، متحصناً فيها بالتفاؤل في مواجهة صدودهن وحرمانهن، ومتطلعاً بآمله لمقابلتهن والاقتران بهنْ. فها هو ينشد قدوم ربّ الفن، وتحدوه آمال اللقاء وتغمره سعادة اللحظات 

تعال بيك الآمال جديدة

تعال اللحظة معاك سعيدة

ويتطلع كاتب الثلاثية بأمنياته للقاء ربّ الشعور ليتبادل معها اشجان العشق، ويفصح لها عما يكنه لها من حب وسط أجواء يغمرها الفرح، وتظلها السعادة في قرية الشايقاب بالجزيرة

بلقاك نفرح** نتبادل الاشجان

ليّ هوانا نشرح

من بهونا الشايقاب

ياروحي نفرح

عندما تلوح ازمة عاطفية في الأفق، يلجأ كاتب الثلاثية إلى الامل لفتح مسارات إبداعية جديدة تعمل على تحفيز الذات لاستخدام تلك المسارات.

تعال يا حبيب

ترنم نغماتك** واسبح في اهاتك

وغنى البلابل** منتظرة صيحاتك

واعزف عودي** يا رب الفن بذاتك

أنا وأنت الاحلام نعيدا

روحي يا روحي الليلة عيدا

 وينحاز كاتب الثلاثية لذاته، وتتبلور قناعته بأن الاحداث السلبية في علاقته العاطفية مع ملهماته امر متغير وغير ثابت، وأن ما ينتاب علاقته من احداث سالبة فهي غير قادرة على استنساخ ذاتها وتكرر نفسها.

هب الحب جاني

وحباني بي لطفو ه

وقال لي كنت عنيف

حبي بتعرفو

ولكاتب الثلاثية جهود حثيثة لإرضاء ملهماته الثلاث، ويقر بأن إرضاء ربّ الجمال نفيس الثمن، لأن المولى عز وجل كفأه وانعم عليه بالجمال.

الغالي رضاه ** ربّ الجمال كفاه

 ومن الأساليب التي اتبعها الكاتب لإرضاء ربّ الفن هي ابراز موهبته في كتابة شعر يفصح فيه عن مدى حبه وتقديره لها، ويستشهد على ذلك بالرسائل والايحاءات التي ترسلها اعينه الشجية إليها.

اوريك فنوني ** يا وحيها وعوده

واريك شجوني** المرسلة بي عيوني

أو حين قال 

اعزف ليك بعودي

يا رب الفن بذاتك

يمثل لقاء ربّ الجمال حدث كبير لدى كاتب الثلاثية، وحينها يغرد الكَناريّ بصوت جميل عذب مضاهياً صوت العندليب، وتبتسم الخميلة بأشجارها الباسقة، وازهارها اليانعة، واريجها العاطر، وطيورها الصادحة.

غرد يا كَناريّ **وحاكي العندليب

ابسمي يا خميلة **أتى يوم الحبيب

وكما غرد الكَناريّ بصوته الجميل احتفاءً بقدوم ربّ الجمال، تصدح البلابل بصوتها العذب احتفاءً بعودة ربّ الفن، ويعزف كاتب النص آلة العود طرباً على الحانها.

تعال يا حبيب

ترنم نغماتك** واسبح في آهاتك

وغنى البلابل ** منتظرة صيحاتك

واعزف عودي** يا رب الفن ذاتك 

لم يعد ربّ الشعور مصدراً لإلهام كاتب الثلاثية وحده، بل كانت وحي استمد منه سيدنا داود جمال صوته وعذوبة نغمته، وأن سيدنا داود صدح بصوتها منذ الازل " مزمارنا يا داود قاد ليك واصدح"، إلا أن حسن صوتها قد تفوق على جمال صوت سيدنا داود الذي شبّه الرسول صلّى الله عليه وسلام بصوت المزمار من حسنه وعذوبته. 

يا روحي افرح 

ومزمارنا يا داود قاد ليك واصدح

ويُعد قدوم ربّ الجمال بمثابة عيد لكاتب الثلاثية، فيجتمعا في رحاب الهوى، وينعما بآلاء اللقاء بعد أن بارحهما النوى، ورشفا كؤوس المنال وسلاف الحب بعد أن غمرت نفسهما فُيوض من الجمال. 

ابسمي يا خميلة **أتى يوم الحبيب

قد دنت السعادة** وقد ذاب النحيب

عطف الليلة ليّ** وشرفنا الحبيب

فجمعنا الهوى**فارقنا النوى

ونعمنا سوى 

وهتفنا لنرشف من هذا المنال

فملائنا كؤوسنا** وغمرنا نفوسنا

من فيض الجمال

يضفي لقاء ربّ الشعور على كاتب الثلاثية أجواء من السعادة وتظلله غمائِم الفرح، تعود به إلى أجواء ليالي الخليفة العباسي هارون الرشيد الطربة والانيسة والمرحة، يغني فيها كاتب الثلاثية بصوت جميل يتفوق فيه على صوت سيدنا داود طرباً واحتفالاً بلقائها وتعبيراً عما يختلج نفسه من بهجة وحبور. 

ومزمارنا يا داود قاد ليك واصدح

عهد الرشيد عدناه** وكان امرح 

كما يمثل قدوم ربّ الجمال عيداً يحتفل كاتب الثلاثية بقدومه، ايضاً لم تكن عودة ربّ الفن أقل حفاوة منها، حيث تمثل عودتها عيداً اخراً لكاتب الثلاثية، يستعيد معها احلامهما الجميلة.  

أنا وأنت الاحلام نعيدا

روحي يا روحي الليلة عيدا

تعال ياحبيب.

السؤال الذي ينهض هل الملهمات الثلاث اللائي كُتبتْ فيهن الثلاثية هي محبوبة واحدة، أم إنهن أكثر من محبوبة؟

الإجابة على هذا السؤال تقتضي الإحاطة علماً بالظروف والملابسات التي كُتبتْ فيها كل واحدة من الثلاثية، وكذلك الأماكن التي شهدت ولادتهن، والحالة النفسية التي كُتِبتْ فيها. في تقديري بأن كل واحدة من القصائد الارباب تختلف من حيث الظروف والملابسات عن الأخرى، وكذلك مسقط رأس كل قصيدة منهنْ، إذ أن قصيدة ربّ الجمال كُتبتْ في الخرطوم، وقصيدة ربّ الشعور بمنطقة الشايقاب تم كتابتها بالجزيرة. (حسب افادة الأستاذ/ معاوية حسن يسن في سفره القيّم من تاريخ الغناء والموسيقى في السودان، الجزء الثالث مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، الطبعة الأولى يونيو 2015)

هذا بالإضافة إلى أن كاتب الثلاثية في قصيدته الغنائية "يا إله فني" عَدَّدَ مفاخراً عدد من الارباب (ربّ السعادة، ربّ الدلال،)، ذكر من بينها الارباب الثلاثة مباهياً بمجد فن ربّ الفن التليد، ومعجباً بسمو ربّ الجمال الفريد، ومقدراً لحنان ربّ الشعور الدائم 

لستُ يا المحبوب شاعراً عربيد

قصدي بس محصور 

في الجمال والغيد

قلت رب الفن إن فنو مجيد

قلت رب الجمال في سموه وحيد

قلت رب السعادة الجمالو فريد

قلت رب الشعور ديمة لينا حنين

قلت رب الدلال دُلُو بينا يزيد

قلت قلت كثير في حبيب وحيد

إلا فيك انت فُقْت كل قصيد

عجز الوحي أن يفيك ويشيد

بيد أن كاتب الثلاثية يختتم القصيدة المشار إليها بأن كل ما قاله من وصف وغزل وكُنية للأرباب في قصيدته -على كثرتها- إلا أن جميع ما قاله لحبيب واحد، الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن مدى حقيقة حصر الارباب والنعوت والاوصاف واختزالها في محبوبة واحدة- وإن تعددت-، على الرغم من أن جميع قرائن الأحوال والأشياء تشير إلى خلاف ذلك. 

قلت قلت كثير في حبيب وحيد

إلا فيك انت فُقْت كل قصيد

عجز الوحي أن يفيك ويشيد

شاعر وملحن هذه الثلاثية الفنان الشامل محمد عوض الكريم القرشي (1922- 1969)، من مواليد مدينة الأبيض، بدأ حياته الفنية القصيرة – الطويلة عندما كان طالباً بمدرسة الأبيض الاميرية الوسطى عام 1939، ممثلاً ومغنياً في مسرحها، حيث وجد تشجيعاً وتحفيزاً من استاذه/ على حسن كرار فأطلق عليه لقب شكسبير تقديراً لإجادته لتمثيل مسرحيات شكسبير، ألف مسرحية "ضحايا الغرام" من أربعة فصول، تم تمثيلها في عدد من مدن شمال كردفان، وخصص دخلها لتأسيس نادي الاعمال الحرة بمدينة الأبيض. وعقب تخرجه من المدرسة الوسطى عمل مع والده بالتجارة في مدينة الأبيض، كما عمل صحفياً وكان يزود جريدة الاشقاء لسان حال حزب الاشقاء بأخبار الاقليم، وكانت ميوله السياسة لحزب الاشقاء، وله محبة وتقدير كبرين للزعيم إسماعيل الازهري، وكذلك عمل مراسلاً لصحيفة الأيام، وفي عام 1965أنشاء صحيفة "الجريدة الأسبوعية" التي كانت تصدر من مدينة الأبيض، وتطبع في الخرطوم، إلا انها لم تستمر طويلاً. 

كانت باكورة قصائده الغنائية أغنية " يلاك يا عصفور نغني ليهو** أنا لي حبيب مغرم وبغير عليه"، التي شدها بها عميد الفن الأستاذ/الفنان أحمد المصطفى، ثم توالت اغنياته فغنى له عدد من الفنانين منهم إبراهيم الكاشف، عثمان حسين، إبراهيم عبد الجليل، الخير عثمان، إلى أن التقى بالفنان عثمان الشفيع وغنى له أكثر من ثلاثين قصيدة غنائية. زاره الفنان عثمان الشفيع بدعوه منه في مايو 1944 ومكث معه زهاء الستة أسابيع وقدم له وقتها أغنيني رب الجمال ورب الشعور، واقنعه باحتراف الغناء.  اتسمت أغانيه العاطفية بالغزل الحسي، بالإضافة إلى طابعها التصويري لا سيما أغنيتي "القطار المرّ" و "البان جديد". وكان ملحناً ممتازاً، لحن معظم أغنياته بنفسه، إلا إنه لا يرغب في أن تنسب الالحان إليه، سُجِلت له العديد من الأغنيات في إذاعة ركن السودان بالقاهرة. 

كانت له علاقة وطيدة بطلاب كلية الخرطوم الجامعية (جامعة الخرطوم) حالياً، حيث كانوا معجبين بشعره، ويرونه من المجددين للغناء في السودان، ولذا كانوا يطلبون منه زيارتهم عند قدومه للعاصمة، وكان يلبي رغباتهم. 

كتب العديد من الأغاني الوطنية منها أغنية "وطن الجدود" التي اداءها الفنان عثمان الشفيع، وكانت معظم أغاني الكسرات التي يؤلفها ذات طابع وطني، يحث عبرها شباب السودان على حب الوطن، ويستشعر فيها وطينتهم لمحاربة الانجليز والتطلع لنيل الاستقلال، لا سيما وإنه من مؤسسي نادي الخريجين بمدينة الابيض، بخلاف أغاني الكسرات السائدة وقتئذ والتي كانت ذات الطابع الميلودي الشعبي الشائعة، والاغنيات التي تؤلف في الجلسات الخاصة والمناسبات الفردية.  

أدى الثلاثية الفنان الكبير عثمان الشفيع المولود في مدينة شندي عام1924 التحق بالخلوة لتعليم القرآن والكتابة في قرية الجوير غرب مدينة شندي، ومن ثم الحقه والده بالمدرسة الأولية، وقضى فيها عاماً واحداً تم سرعان ما غادرها ليعمل مع والده بالتجارة، حيث كان والده يمتلك متجراً في سوق مدينة شندي، وبعد وفاته والده عمل ترزياً ليعول اسرته، واثناء عمله كترزي كان يردد الأغاني الحقيبة السائد آنذاك، حتى اشتهر في سوق شندي بإجادته للغناء، وكان يستعين به المطربين في مدينة شندي ليعمل معهم كورس (شيّال)، تعلم عزف العود على يد موظفين قدما إلى مدينة شندي ليعملا في مصلحة الزراعة وقتئذ، تعرف على الشاعر مبارك المغربي وعلاء الدين حمز ة الملحن والعازف المشهور اثناء سفره لإقامة حفل بمدينة القولد مما كان له الأثر في حياته الفنية، حيث كتب له الشاعر مبارك المغربي " الباسم الفتان" وهى مجاراة لأغنية الفنان إبراهيم الكاشف "الشال منام عيني" ولحنها بذات لحن أغنية " الشال منام عيني"،  وهي أول أغنية خاصة به، وسجلها للإذاعة السودانية عام 1943 وفي هذه الرحلة نزل بمدينة دنقلا التي أحيا فيها لأول مرة حفلاً غنائياً وكان ذلك بنادي الخريجين بمدينة دنقلا، بدأ تعاونه مع الشاعر والملحن محمد عوض الكريم القرشي قبل أن يلتقيه بأدائه لأغنيتي "حبيتو ما حباني " و" يا فتاتي أين شخصك " . 

وفي مايو 1944 سافر إلى مدينة الأبيض بدعوه من الشاعر والملحن ود القرشي حيث أقام معه ستة أسابيع، أقنعه فيها بامتهان الغناء واهداه اغنية ربّ الجمال، وكذلك أغنية " يا حياتي يا ملاكي". وعند زيارته الى مدينة الأبيض في العام 1949 في طريقه إلى دارفور كتب له ود القرشي أغنية " القطار المرّ". شكّل مع ود القرشي ثنائياً رائعاً ساهم في تطوير الاغنية السودانية، وغنى له العديد من الأغاني العاطفية منها على سبيل المثال لا الحصر، الذكريات، ربّ الجمال، ربّ الفن، الهاجر، الفارقت ما لقيتها، الشاغل الأفكار، القطار المرّ، البان جديد، لوحة، خداري ما بخليه، ملامة، ربّ الشعور وغيرها، كما غنى له عدد من الأغاني الوطنية منها وطن الجدود.

ليست هناك تعليقات:

مشاركة مميزة

في قعر ركوبة ست الشاي

 في قعر راكوبة ست الشاي جمبت ستنا                             مآآآآآآآ حارتنا  و بِنريدآآآآآآآ    !!!!!!! لبعض الأوباش في حارتنا وحدتنا الذي...

Post