صحيفة اليوم التالي
( تذكار عزيز)
بقلم : زين العابدين الحجّاز
ولد الشاعر الرائع مصطفى عبدالرحيم إبراهيم سنة 1935 فى حي العرب بأم درمان و نشأ ما بين حي العرب و المسالمة وسط كوكبة من عمالقة الشعر و الغناء . تربّى فى بيت أمه فاطمة أحمد البدوي لأن والده قد توفّى وكان عمره ست سنوات فعاش حياته فى خضم من الآم اليتم و الحرمان . درس الأولية فى مدرسة المسالمة و الوسطى فى الأهلية أم درمان و الثانوي فى وادي سيدنا و كان طالبا نبيها لكن نسبة للظروف المادية الصعبة التى كان تمر بها العائلة لم يتمكن من إكمال المرحلة الثانوية فترك الدراسة وعمل فى مصلحة البريد و البرق إلى أن أحيل الى المعاش ثم عمل صحافيا بوكالة سونا للأنباء وكان في بداية السبعينيات عضواً في نادي العباسية الثقافي الإجتماعي . كتب مصطفى عبدالرحيم قصائده الغنائية بالدم ونزيف الحزن ورهق الوجدان وفصّلها بأحاسيس جريح وعذابات مبدع و كل تلك الأحاسيس و المشاعر التى مرّ بها خلال تجربته الإنسانية حاول أن يجسدها فى أغنية )هوج الرياح( تلك الرائعة التى لحّنها وغنّاها ابن حي العرب الفنان أحمد الجابري فكانت بها بدايته الفعلية :-
هات يا زمن
جيب كل أحزانك تعال جيب المحن
جرّعني كاس
من لوعة من آلامي ما المحبوب خلاص
خلاني ليك الليلة راح
فات قلبي شمعة وحيدة في هوج الرياح
خلى النواح
و رماني ليك راح يا زمن
و خلى الشجن
ثم يسترسل :-
الليل يهوّد بي ويبقى تلت أخير
يطويني في رحابه الوثير
أنا والظنون وعذابي والصمت المثير
من المعروف أن الثلت الأخير من الليل هو أطول وأصعب ساعات الليل والصوفية يطلقون عليه تلت التصوّف فأي ألم نفسي وأي صدق وأي بلاغة أودعت في هذا الإنسان عندما يذكر هذا الثلاثي المدمّر... الظنون والعذاب والصمت المثير فى الثلث الأخير من الليل ؟ .. حالة لايستطيع توصيفها إلا شاعر متمكّن يكتب با الدموع والألم وسط هوج من الرياح .
ما أجمل سفر الذكريات و سفر الشجون وكم من لحظة نحتاج أن نكسر فيها شجون الحس لنجتر ملامح تلك الذكريات . كثيرا ما يخرج البوح من نمط الإعتياد و لكن مصطفى عبد الرحيم سطّره شعرا فى أغنية (تذكار عزيز) التى لحّنها و غنّاها ابن حي العرب الفنان الذري إبراهيم عوض :-
جرحي الأليم
الشايلو تذكار طول حياتي أسى وهموم
جرحي الدفين
العذّبك يا قلبي طول عمرك أنين
داريتو في الأعماق سنين
غنيتو للعشاق حنين
شكوى وشجون
غنيتو أصدق أغنيات
وأصبح مجرد ذكريات
ويستمر نزيف الجرح الغائر لدى مصطفى عبد الرحيم و في محاوله منه لرتق ذلك الجرح يوحّد كل الأفئدة مع فؤاده ثم يضع خلاصة تجربته وهو في قمة اليأس و الإحباط و كأنه يود أن يقول لنا فى هذه القصيدة أن كل الذي يجري حولنا سيؤول إلي سراب : -
أصلو القلوب الهايمة تعبد فى الجمال
بتضيع سنينا الحلوة في الريد إبتهال
ولهانة تحلم بالوصال
مسكينة تحلم بالمحال
لمتين بتبنى قصور رمال
لتظهر لنا (تذكار عزيز) أكبر من إنفعالات الحاضر و تبقى تذكارا عزيزا و ومضة مشرقة فى زمن الضباب و العتمة و يبقى الفن الذى لا يحترق و لا يعرف القشور خالدا فى وجدان الجميع .
لحّن وغنّى له أيضا الفنان زيدان إبراهيم أغنية (غرام الروح ) التى كانت فيها دفرة الشوق عند مصطفى عبد الرحيم أقوى من كل الإحتمالات جعلته يهيم فى بوح شفيف ملئ بالألم و الحسرة فجّر فى دواخله عشم الأمل و هو يسأل :-
صحيح إتغيرت أنت خلاص ؟
نسيت العشرة يا سيد روحى والإخلاص
بقيت ظالم نسيت الناس
جنبك عمري كان أملا مفرهد يا غرام الروح
زهور بتملأ دنياي بالأمانى تفوح
وبعدك ياما بتألم حزين وأنوح
غريب أنا من غير أهل
قلباً حزين مجروح وحيد مجروح
روى صديق العندليب الاستاذ عماد الدين العاقب أن أثناء بروفات (غرام الروح ) فى منزل زيدان بالعباسية بحضور مصطفى عبدالرحيم سمعت أم الحسين عبدالله والدة زيدان إبنها يردد : " غريب أنا من غير أهل " فأوقفت البروفات وهى تبكي وقالت له : (مالك يا زيدان يا ولدي أنا وخالتك أم الحسن قصرنا فيك في حاجة ؟ ) فبكى زيدان ومصطفى لهذا الموقف وشرح لها مصطفى أن إبنها لا يقصدهما فى الأغنية وانما جاء التعبير هكذا فى كلمات القصيدة .
تزوّج مصطفى عبدالرحيم في منطقة فداسي بالشمالية و توفّي بها فكانت وفاته حدثا حزينا أبكى كل سكان حي العرب و المسالمة خاصة زملاءه و أبناء جيله . ألّف العديد من القصائد و جمعها لكنها إختفت بعد و فاته فى ظروف غامضة كما يشاع ولكن لن تختفي بصمات هذا الشاعر و ستبقى كلماته ومضات مشرقات و كلمات لا تحترق و لا تعرف القشور لذا ستظل خالدة فى الوجدان .رحمه الله رحمة واسعة.
الشكر موصول لكل من أتاح لنا معلومات في سيرة هذا الشاعر المبدع و أطيب التحايا الى أبنائه يسري و يوسف و علاء الدين و كل أفراد أسرته الكريمة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق