*أزمات السودان و داء السمسرة الفتاك*
لا يتوقف حل أزمات السودان المتشعبة والمتشابكة على رفع اسمه من قائمة الدول الراعية للارهاب، بحسب التصنيف الأمريكي، ولا على اقامة علاقات دبلوماسية مع اسرائيل، ولا على تلقي دعم مالي دولي أو اقليمي، بل يتوقف، حصراً، على اقتلاع ظاهرة "السمسرة" من كل اوجه الحياة فيه. فالسماسرة هم الداء العضال الذي ينخر في جسد البلاد بلا رحمة وسيقضي عليها، طال الزمن ام قصر، ما لم يقتلع من جذوره التي تتغذى على الشره والانانية وانعدام الحس الوطني والانساني.
وارجو ان يطول صبركم قليلاً حتى أوضح من أعني بالسماسرة، لأنهم غير من عناهم تفسير المعجم لكلمة سمسرة واسم سماسرة، فقد جاء فيه: '' السِّمْسَارُ : الوسيط بين البائع والمشتري لتسهيل الصفقة'' ، فالمعني هنا شخص يقدم خدمة محددة ويبذل مجهوداً وله خبرة بمجال ما ، و السَّمْسَرَة : حرفة السمسار، أي أنها مهنة لها أصول ومقتضيات و شروط وقوانين وأخلاق مرعية، وليست بحال مهنة من لا مهنة له ولا أخلاق ولا ضمير . فمن أعني هنا بالسماسرة الذين ساموا البلاد العذاب و أوردوها موارد التهلكة؟
أولهم سماسرة السياسة، الذين لا ينتجون فكراً ولا يبنون تنظيمات فاعلة غايتها خدمة البلاد لا الأفراد، أولئك الذين لا يحرسون مبدأً ولا يصونون إتفاقاً ولو مع رفاق الخندق الواحد، بل كل همهم كيف يصلون إلى السلطة ولو على اجساد آلاف الضحايا، الأموات منهم والأحياء. و يلي هؤلاء سماسرة الدولار الذين حولوا العملة إلى بضاعة تباع وتشترى على هوى جيوب فاغرة أفواهها تصيح كل صباح : هل من مزيد؟ فخلت البنوك من التحويلات التي تعرفها كل مصارف الدنيا اذ يبعث مغتربو كل البلدان ما يكسبون وما يدخرون إلى بلادهم ليسهموا في بناء رصيدها من العملات الحرة لأغراض التجارة العالمية ومشاريع التنمية، وفي نفس الوقت يدخرون لمستقبلهم في وطن له يد سلفت ودين مستحق، وأقرب الأمثلة جارتنا الناهضة أثيوبيا، بينما السودانيون يدخرون في كل بلاد الارض ويتملكون العقارات و تنحصر علاقتهم بالسودان في تلك المبالغ الشهرية الضئيلة التي يتسلمها سماسرة الدولار ، و يجمعونها ، كدم الحجامة، حتى يبيعونها لمستورد يدفع لهم ما يطلبون من أجر السمسرة، فيرتفع الدولار على هواهم و يرتفع معه كل شئ الا كرامة المسحوقين الذين ارتبطت حياتهم بالدولار دون ذنب، أو حتى مجرد علاقة قربى أو معرفة بسيطة به سوي ما يطرق أذانهم كل يوم، في الكنتين والجزارة والمواصلات، بأن الدولار قد ارتفع وأن الجنيه، المسكين ، قد خفت موازينه فهوى !..
ثالث السماسرة هم أمراء الحرب، من قيادات الحركات المسلحة التي أسست باسم قضايا عادلة ثم اختصموا حول المناصب وانشقوا فانقسمت تنظيماتهم أميبياً الى عشرات الحركات، و انتهوا إلى استخدامها لأغراض "الإستوزار" وتقاسم الثروة كأشخاص ومجموعات بينما الضحايا في ملق وجوع ومرض في معسكرات النزوح بعيداً عن قراهم ومزارعهم فضاعت حيواتهم ما بين الجلاد الأول و الجلاد الثاني الذي من لحمهم ودمهم ويتحدث إفكاً بلسانهم. وبجانب هؤلاء، حذو النعل بالنعل، قادة المليشيات بكل انواعها وألوانها، الذين تربوا على مال الميري السائب تحت حكومة اندثرت وما زالوا يقتاتون من المال العام بمختلف انواعه في ظل حكومة لا يطيقونها ولا يحتملون البعد عن كراسيها، وبنادقهم مشرعة في وجهها!
رابع السماسرة هو العامل في الحقل الصحي الذي لا يرى في المريض سوي رقماً يضاف لحصيلة غلة اليوم من الجنيهات، سواء أكان طبيباً أو "فحيصاً" أو صيدلانياً أو غيرهم ممن صارت الخدمات الصحية الخاصة طريقهم الاقصر لتحقيق ثروات طائلة، فيسيرون فيه لا يلوون على شئ ولا يبصرون آلام البشر وأحزانهم الملقاة على قارعة الطريق!
خامس السماسرة هم اولئك الذين حولوا التعليم إلى استثمار دون أن يقدموا شيئاً يساوي أو يبرر ما يجنونه من رسوم، ولو فعلوا لجنبهم ذلك صفة السماسرة في ظل عجز الدولة عن توفير خدمات أساسية مثل التعليم والصحة واصحاح البيئة، فلا مدارسهم استوفت شروط المدرسة كمباني و تجهيزات، ولا معليهم يحسنون التربية والتدريس، الا في حالات نادرة.
سادس السماسرة، هم العساكر من الذين اعتلوا أعلى الرتب دون ان يتدرجوا في العسكرية او يدرسوا علومها، او يخوضوا حروبها، فصار شرف الجندية عندهم لا يساوي اكثر من المكسب المادي، وصار السلاح عندهم لا يحمي الوطن بل يحمي المنصب!
ما تبقى من السماسرة، الذين يصعب حصرهم، تجدونهم في السوق المحلي يبخسون المنتجين أشياءهم و يستغلون المشترين ببشاعة لا توصف، تجدونهم في الميناء البري يسعون بين المسافر وصاحب البص بلا سبب و يعتقدون، عن جهل، أنهم يقدمون خدمة يستحقون عليها أجراً يصل حد مضاعفة قيمة التذكرة، وستجدونهم في دواوين الحكومة "يسهلون الاجراءات" بمقابل، و تجدونهم حتى في المحاكم "يتوسطون" بين متهم لا مهرب له وقاضى مرتش إن وجد، و ستجدونهم عند شراء الأراضي دون أن تطلبوا خدماتهم، وعند شراء السيارات المستعملة حتى قبل ان تفصحوا عن رغباتكم ..! والحق يقال، إنهم أذكياء، بل في غاية الذكاء، و مبدعون في وصف بضاعة لا تريدها فيمدحونها لك حتى تقع في غرامها، ولو وصفوا لك الموت نفسه لأشتهته نفسك، كما قال أحدهم في وصف تجربة سريالية معهم! هل اكتملت قائمة السماسرة؟ بالطبع لا. التفت حولك وستجد عشرات منهم في كل مكان، يسمسرون في كل شئ، نعم كل شئ، فأحذر ان تُعرض في سوق نخاستهم دون علمك.
اعود كما بدأت، وأقول أن داء البلاد يكمن في ظاهرة السمسرة التي طالت كل شئ، ولن تسترد البلاد عافيتها دون الفكاك منها، و لكن هل سيقف السماسرة متفرجين وانتم تشرعون في تفكيك دولتهم؟ ذلك أمر دونه خرط القتاد، فأي حياة تلك، بالنسبة لهم، التي لا يكسبون فيها ويكنزون بلا جهد يذكر وهم جلوس على مكاتبهم او على مقاعد سياراتهم الفارهة لا تلفحهم شمس ولا تتغبر ارجلهم بتراب؟
القاسم المشترك بين كل هؤلاء هو الأنانية، انعدام الحس الانساني، ازدراء العمل المنتج ،الفهلوة و نشر الافكار البائسة المدمرة وسط الشباب من نوع أن الطريق الأقصر لتحقيق الثراء هو السمسرة، في كل شئ، وليس طريق العلم والعمل والبحث والاجتهاد وكأنما تقدم الشعوب الأخرى تم من باب السمسرة !
*مستقبلكم رهين بمصير سماسرتكم!*
محمد أحمد عارف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق