قديما قالو: كل كنز حارسه جان
صورة الحارس في الاغنية السودانية
هل الغفراء، أو من نسميهم أيضا الحراس، لئام؟ هل هم قساة قلوب والرحمة منزوعة من أفئدتهم؟ ويتميزون بالشراسة كما تصورهم أغانينا؟ يوصف الغفير أحيانا بأنه شقي وملعون ولا يبتسم ولا يرد السلام..
لماذا لا ننصف الغفراء ونحترمهم حيث أنهم أناس يؤدون ما يناط بهم من عمل على الوجه الأكمل. فأعمال الحراسة أو الغفارة تتطلب الحزم واليقظة وإلا سيتعرض المحروس للخراب أو الضياع.
حاولت أن أرصد ما ذكر في بعض أغنيات الطمبور التي تصور الغفير أو الحارس فوجدت الشعراء يصفونه بأشنع الأوصاف . فالغفير كما تصوره أغانينا يقابلك دائما وهو عابس الوجه ، تحدثه فيشيح بوجهه عنك، تتود اليه فلا يقابل ذلك إلا بالنفور. حتى الشعراء في الأدب العربي القديم يصفونه ببعض تلك الصفات. قال ذو الرمة:
إذا جئتها ردني عابس
رقيب عليها لها حارس
وهو هنا يصف الحارس بالعبوس.
تعالوا معي نستعرض بعض ماورد في أشعار أهلنا الشايقية حول الصورة النمطية للغفير.
وشعراؤنا عادة ما يشبهون محبوباتهم بأنواع الزرع المختلفة كالنخيل والمنقة والبرتكان وشجر البان وشتول الأنناس وما الى ذلك.
يقول شاعرنا حسن الدابي عليه الرحمة في إحدى قصائده :
سيدو الحارسو لِكّي خطابو
ينبح ديمة الله أصابوا
طول الليل مبارا كلابو
شايل حربتو وكوكابو
الدرب البنندلابو
حجّرو قال يجيب لي خرابو
حتى الطير يحاحي اسرابو
قفل للنمل ديدابو
ويلاحظ أن الحارس هنا هو نفسه صاحب الزرع المحروس. وصفه الشاعر بأن خطابه لكّي أي لا منطق له وهو مسلح بالحربة والكوكاب ولم يكفه ذلك بل استعان كذلك بالكلاب الأمر الذي مكنه من حجر الطريق على الناس. ولم يقف عند هذا الحد ، فهو أيضا يحاحي الطير ويمنعه من الاقتراب من هذا الزرع وحتى النمل لا أمل له في الوصول حيث أن الممرات (الديداب) التي يسلكها أقفلت.
وفي قصيدة أخرى يقول نفس الشاعر :
حراسك شقي وملعون
ماب يبسم يفرلو سنون
ختاك جوة خلف حصون
من قولة سلام مغبون
أنظر كيف وصف الشاعر الحارس هنا بأنه شقي وملعون ولا يبتسم ولا يرد السلام وكأن بينه وبين زائره عداوة مستحكمة.
وفي الأبيات التالية يحاول الشاعر (حسن الدابي) زيارة المحبوبة ولكنه يجد المعاكسة من الغفير أيضا والذي لم يمنعه من الزيارة فحسب ولكنه أساء اليه أيما إساءة ونعته بأنه عوير ولا يستحق أن ينال شرف رؤية المحروسة.
مرة ليها مشيت زيارة
عاكسوني اهل الغفارة
قالوا زي شوفتك خسارة
ياخي سيبنا بلا عوارة
أما الغفير في الأبيات التالية فهو ليس آدميا، بل تمساح (دود). والمحبوبة هنا داخل بحور أي محروسة داخل جزيرة بين بحرين فإذا كنت تجيد السباحة وغامرت بالاقتراب فإن التمساح لك بالمرصاد :
لجة بحورو ماب يتخادو
والعام كلو دودن صادو
وأحيانا تكون المحبوبة محروسة بالانس والجن أيضا مما يجعل الاقتراب منها مستحيلا وحتى لمس أسوار مسكنها متعذرا:
نقلة بانة فاتحة زهورا
دق مع الفجر بابورا
بالجن والانس مغفورة
ممنوع حد يلمس سورا
أما الحارس – الديدبان- في الأبيات التالية فلديه أوامر صريحة بفتح النار وإزهاق روح كل من يقترب ولم يسمع بحقوق الانسان و لا علاقة له بذلك:
تاق لحظني وجفل الجموح
ديدبانو يفرط الروح
وفي الأبيات التالية يشبه الشاعر محبوبته بشتيلة المشرق وهو من أنواع التمر الرطب حلو المذاق لذيذ الطعم– والأبيات أيضا للشاعر حسن الدابي رغم أنها تغنى في قصيدة )شادية ما عارف اللت الله تراني بزرع( وشاعرها هو المرحوم عبد الله كنه، تقول الأبيات:
تمير المشرق البشيل مفدع
الغتيت حراسو بي فرارو يجدع
الحارس كما ترى يا صديقي رجل في غاية القسوة وغتيت و لا يتورع في استخدام الفرار لارهاب كل من يحاول الاقتراب من تمير المشرق.
أغاني المرحوم النعام آدم القديمة مليئة أيضا بمثل هذه الصور النمطية للغفير، تجده يصف الغفير باللؤم كما في أغنية مشتاقين :
لئام غفراهو للزول ماب يدورو
وفي أغنية نوارة قنتي للنعام آدم، يصف الشاعر الغفير بأنه دائما غضبان ويقابل الناس بتكشيرة، ورغم ذلك يحاول الشاعر فتح قنوات معه لمقابلة المحبوبة لأنها (معدوم نظيره)، يقول الشاعر :
قصيبة لفت الجزيرة
دايما غضبان غفيره
يلاقي الناس بتكشيرة
أروح أفتح معا السيرة
لأنها معدوم نظيره
وكذلك يصف الغفراء أيضا باللؤم في قصيدة (بقيت قيام)، حيث يقول فيها عن الغفير:
حرسوه الغفرا اللئام
وفي أغنية ضهب شيبون وهي قديم النعام الذي لا يبلى يقول عن الغفير:
أخضر وفي الجروف مزروع
جيت أنا داير أشوف النوع
وقف حراسو قال ممنوع
غالي وفي الرفوف مرفوع
لهيجو الفي الجنيد مزروع
وفي أغنية المنقة منقولة للنعام آدم فإن الغفير رجل لا يقبل أي نوع من التفاهم مهما توددت اليه:
شديرة منقة مزروعة
خدرا ولينات فروعا
سألت غفيرا من نوعا
قال لي دي حاجة ممنوعة
والخوة معاك مقطوعةوهذا هو الشاعر السر عثمان الطيب أيضا وصف الغفير بأنه لا يتهادن في قصيدته بريدن لي شقاي زادن في ايه لو بالسلام جادن وهي من قصائده القديمة ، يقول السر عثمان:
بحورن مرة ما اتخادن
غفيرن مابي يتهادن
ودعونا نرجع الى شاعرنا حسن الدابي، فهو في هذه المرة يحاول استعمال الحيلة مع الغفير ويحاول اقناعه بأن يطلب مقابلة المحبوب للحظة فقط إلا أن الغفير يقابله بآذان صماء ويصده ويتعلل بأنه يخشى من رؤسائه الذين لن يرحموه إذا وافق وسمح له بالدخول:
يا غفيرا عليك الرسول
لحظة بس انظرا ما في طول
جيت اشوف الاناناس شتول
منو ازمن طولت طول
قال لي: فوت اختاني يازول
إنت جنيت ولا مخلول
افرض اتلقاني مسؤول
ولي جابك انا شن أقول
وفي قصيدة أخرى للدابي وهي (جنبي شاتلنو عجو الشروق):
قت لو مرضان خليك شفوق
قال لي حتى ان مت بالشوق
ويقول الشاعر محمد بادي في إحدى قصائده التي هجا فيها ناس العمارات:
غفيركن نوم نجم القبلي أب راسا قوي وجنبو كلابو الهوايات
وفي قصيدة يغنيها الفنان عثمان اليمني ولا يحضرني اسم شاعرها للأسف:
ليل نهار غفرك يجدع
ماب يخاتر الطير في الفرع
ان رقد يرقد مكوع
ولعل شاعرنا الأستاذ محمد سعيد دفع الله هو الشاعر الوحيد الذي شذ عن هذه القاعدة. فهو لم يلعن الغفير ولم ينعته بأقبح الصفات كما يفعل الآخرون ، بل تمنى أن يكون هو غفيرا لشتيلة البان. يقول شاعرنا في إحدى قصائده ، وهي من قديمه :
نقلة بانة دابة صغيرة
مالو أنا لو صبحت غفيرا
ولك يا صديقي أن تتخيل شاعرنا محمد سعيد دفع الله وهو يجلس مكان الغفير لابسا البردلوبة الكاكية والرداء الذي يصل الى منتصف الركبة ويلف القلشين في رجليه ويحمل في يده نبوتا ويجلس لحراسة تلك البانة الصغيرة. ولكن محمد سعيد يرجع ويجاري الشعراء الآخرين في قصيدة (البوجع قليبي)
حارسا ليهو قاسي قليبو مصنوع من حديد
بالليل والنهار قاصيهو لانوم لا غميد
وهذا فناننا الأديب المخضرم عبد الرحمن بلاص في إحدى تراثياته
(اغنية بريدو الزول ... زولي أنا أصلو خاتي القول) تصف الأغنية الغفير بالحرص الشديد على المحروس وهو هنا يبذل أقصى ما يستطيع لعمل الحواجز اللازمة (قوالو الضرا) لكي لا يستطيع كائنا من كان أن يرى ما بالداخل الى أن تستوي الثمار من نفسها (إلا لامن ينجض برا):
خدرة المزروع في الترا
دابو فسخ وكبسو الشرا
الغفير قوالو الضرا
أصلو حالف زول مايرى
إلا لا من ينجض برا
يا شتيل راس ساقة العمد
تم حول من نيسو جبد
النقل مزروع بالعدد
عبروه ووقفو الحد
سيدو ماب يقضالك غرد
يالعليك الايد ماب تطول
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق