كتب (صلاح أحمد محمد صالح) في رحيل (أحمد المصطفى) :
(أحمد المصطفى قيثارة الزمن الجميل)
قلت لإبني أحمد : ما الذي ذكرك اليوم بهذا اللحن القديم ؟ و كان يمرق من أمامي عندما انطلق صوته فجأة يترنم : ما احلى ساعات اللقا .. أنا والحبيب عند الغروب . الذي دعاني الى السؤال ــ مستغربا ــ هو أن أحمد كان بحكم ظروف العائلة و ظروف دراسته و عمله قد غادر السودان وهو لا يعي كثيرا و ظل لسنوات طوال متنقلا بين بلدان بعيدة و غريبة و ثقافات عديدة و متباينة .. وهو مقيم الان في بقعة نائية من الولايات المتحدة هي التي أزورها الان ضيفا عليه . و الحق أنني سعدت كثيرا و أنا أسمعه يريد مطلع أغنية أحمد المصطفى الشهيرة وهو على هذا البعد الجغرافي و الزمني عن ديار الأهل و أجوائها الفنية و الثقافية .. و كنت أخال أن أمواج الزمن و التجارب و الغربة ربما تمس ذكريات الطفولة البعيدة و الوطن .. و لكن يقينا أن ما هو أصيل و جميل في نشأتنا و حياتنا يبقى كامنا في وجداننا جاريا في عروقنا على الدوام .. و في لحظات بعينها .. قد تتباعد – يتفجر ليعود بنا عبر المسافات و الزمن الى المربع الأصل .. مربع الوطن و الأهل و العشيرة .. وهذه واحدة من قيم و معاني الفن الجميل الأصيل ورواده و رموزه . نقلتنا الفرصة الى حديث شيق عن الأغنية و الكلمات و تشعب الحديث – وأنا مولع بذكر أحمد المصطفى – فانطلقت متحمسا أحكي عن أحمد المصطفى و عصره و مكانته الفنية الرفيعة في بلادنا و علاقتي الشخصية العامرة به و ما أثمرت عنه من قدر متواضع في المجال الفني . انسياقا مع الجو الذي ساد سارعت بادارة شريط حملته معي لأحمد المصطفى كان يتضمن لحسن الحظ هذه الأغنية .. " ما أحلى ساعات اللقا ". و لثلاثة أو أربعة أيام متتالية ظللنا نستمع في متعة و سعادة و حنين الى أحمد المصطفى وهو يتحفنا " بأجمل زهور فنه " و ينقلنا الى ربوع أهلنا " و خلانا " و يطوف بنا كما على بساط سحري فوق مقرن النيلين و ربوع أم در و نجوع بحري . في أواخر الثلاثينات و أوائل الأربعينات كان أحمد المصطفى ينتقل بين قريته الدبيبة و أم درمان و الخرطوم ..و في ام درمان كان مسكنه في حي نسميه " حفرة كلودو " يقال أن الاسم لمستعمر فرنسي اسمه كلود – و هي واقعة على شارع السيد علي ما بين المحطة الوسطى غربا و حي الشهداء شرقا .. و تلك كانت حلتنا نحن أيضا . و قد أنس أهل الحي في ذلك الفتى النحيل القادم من نواحي العيلفون شابا مهذبا بشوشا سمح المحيا محبا للناس دائم الابتسام .. و في عينيه براءة " ناس الأقاليم الطيبين " .. و سرعان ما ارتاحوا له و دخل قلوبهم و أحبوه و تعلقوا به و اندمج بينهم أخا و أبنا . عندما احتفل بزواجه في عام 1945 – اذا لم تخني الذاكرة – ذهب الكثيرون من رجال و فتيان الحي الى الدبيبة ليشاركوا ابن الحلة المحبوب فرحته الكبرى بشريكة حياته و ملهمته التي قاسمته مشواره الحافل و هيأت له عشا هادئا و بيتا سعيدا و حياة مستقرة لأكثر من نصف قرن " قلبي معها ". و كان مما لفت الأنظار اليه منذ قدومه أنه يتمتع بصوت جميل و يجيد العزف على العود و من البداية كانت كل المؤشرات تبشر بأننا نشهد تفتح موهبة فريدة و صعود نجم ساطع في سماء الفن . و مالبث أحمد المصطفى أن خرج بفنه من محيط القرية في العيلفون و الحي و أم درمان .. و راح البلبل الصداح يحلق في سموات الفن الجميل مغردا بصوته الشجي الجذاب و ألحانه الجديدة الأصيلة و كلماته الرقيقة الراقية و أيقاعاته المبدعة . و " الناس في حبه " و مع انغامه يفرحون و يحلمون و يهيمون وهو يصف الأحبة و يناجيهم و يسعد بلقائهم .. و يأسون و يحزنون أحيانا أخرى وهو يشكو ألم الفراق و قسوة الزمن و ضياع الأمل .. و يتحمسون و يهتفون و هو يغني للوطن و أمجاده .. و يرقصون أحيانا كثيرة و هو يردد " كسراته " التي تفرد بها و تفوق عليها فقد عزف أحمد المصطفى على أوتار العواطف و المشاعر الأنسانية و الرومانسية كلها و خاطب الانسان السوداني بمختلف فئاته و أصبح في وقت قصير أحمد المصطفى الذي عرفناه و أحببناه .." الفنان المجدد " كما أسماه المرحوم طه حسين زكي مدير الاذاعة في بدايات عهدها و " فنان العصر " كما توجه صديقنا الشاعر السر قدور و" إمام الفنانين " كما أجلسه على المنبر أستاذنا الجليل الدكتور بشير البكري . و ذات مساء لن أنساه اتصل بي صديق من واشنطن ليقول في صوت حزين " نعزيك في أحمد المصطفى " . و كأنه سكب نارا على أذني و للحظة خيل لي أن نور الغرفة قد أنطفأ .. وافقت على صوت صديقي وهو يضيف " لقد انتقل أحمد الى جوار ربه منذ أربعة أيام " ذات الأيام التي كان صوته فيها يملأ جنبات الدار عندنا شدوا و تنغيما و مرحا و بهجة ..! . هكذا يا صديق العمر و يا صنو النفس شاءت أقدارنا أن يكون فراقنا الأخير بهذا التزامن الرمزي . عزائي أنني و أنت في لحظاتك الأخيرة قد كنت معك و ان بعدت الشقة . و صمت صوت أحمد المصطفى و ران على الدار وجوم و حزن عميق . أدرنا تسجيلا للقران الكريم بصوت مقرىء من المدينة المنورة اسمه " السديس " كنت و لا أزال مولعا بترتيله المميز الذي أحس و أنا استمع له أنه يحمل الينا نفحات عطرة من مدينة المصطفى صلى الله عليه و سلم .. تحببه الي أيضا نبرة بدوية فطرية فيها الى جانب التقى و الخشوع و وجد وعشق و حنين . أويت الى فراشي و أنا موقن أن بيني و بين النوم فراق تلك الليلة الحزينة . قرأت الفاتحة التي أعقبتها بقراءة سورة الاخلاص احدى عشرة مرة ترحما على العزيز الذي رحل . و جرى زورقي في نهر الذكريات الحافلة مع أحمد المصطفى .. تلوح أمام عيني صور كأنها تتحرك للمواقف و المناسبات و الأماكن و يتجسد أمامي خلال تلك الصور وجهه الباسم البشوش .. و في لحظة أخرى يرن في أذني ثانية صوت صديقي من واشنطن " نعزيك في أحمد المصطفى " .. و أعود الى الواقع الموجع .. و دمعتان كاللهيب تحفران طريقهما على جانبي وجهي أودعتهما كل ما في الصدر من مشاعر الحب و الاخاء و التقدير و الوفاء التي أكنها لذاك الأخ الكريم و الفنان العظيم . و اليوم و أحمد المصطفى في رحاب الله نقول دون تحيز بل وفاء , ان أحمد المصطفى – رحمه الله – قد احتل في بلادنا و حياتنا مكانة لم يسبقه اليها أو يشاركه فيها أحد .. لأن أحمد لم يكن فنانا مبدعا فحسب بل كان نهرا تدفقت فروعه في ميادين شتى من مجالات العمل العام و هموم وشؤون المجتمع السوداني خلال الخمسين سنة الماضية .. فالى جانب مهمته التي كانت دائما – تقريبا – كنقيب للفنانين وهي التي أعطاها أحمد من وقته و جهده و عرقه و أعصابه و حقق فيها من الانجازات – و على قمتها تشييد دار نقابة الفنانين – ما لم يكن ممكنا لأحد غيره أن يحقق أو ينجز .. و كان مدعوما في جهده برصيده الكبير من حب زملائه الفنانين و تقديرهم العالي له و وضعهم له مكانة يمكن أن نصفها بأنها " خارج المنافسة " . الى جانب ذلك أسهم أحمد المصطفى كما هو معروف في مجالات عديدة .. الأعمال الخيرية المختلفة .. بناء المدارس .. بناء المساجد .. أنشطة الأندية الوطنية و الرياضية وفي تطوير الحياة و المجتمع في منطقة العيلفون .. وفي مجال المرأة التي غنى لها و أشاد بها و استنهضها . كان أحمد المصطفى عضوا شرفيا في اللجان التي قامت في بدايات الحركة النسائية .. اللجنة التأسيسية للاتحاد النسائي .. نهضة المرأة .. المرشدات .. و غيرها . كان حركة دائبة لا تهدأ .. و أذكرأنني كنت في مطلع الخمسينات أكثر قربا منه و التقاء به و كنت أبدي له عجبي كيف يستطيع أن يوزع وقته ليوفق بين كل تلك النشاطات . كان يومه يبدأ قبل السابعة صباحا لينتهي في ساعات الفجر الأولى من اليوم التالي و كان القسط الأكبر منه مخصصا لأعماله التطوعية ولم يستثنى من ذلك كثيرا من حفلاته الغنائية . لم أكن ألمس عنده ضجرا و تذمره أو شكوى بل كان هذا الانسان الرائع يمارس كل ذلك النشاط و يواجه التعب و الارهاق بنفس راضبة و روح عالية و حماس وطني دافق و صبر نادر .. ولا أشك أن اخرين غيري من أصدقاء أحمد المصطفى الذين عرفوه و رافقوه في الحياة سيضيفون الكثير الى القليل الذس أوردته في هذه الأسطر القليلة التي لا تكفي ولا توفي هذه الشخصية الفريدة حقها . و برحيل أحمد المصطفى يرحل زمن بأسره .. ذلك الزمن الجميل .. زمان الحب و المودة و القلوب الحانية و النفوس الصافية و الصلات الطيبة بين الناس .. الزمان الذي يحن اليه و يتحسر عليه الان من تبقوا من ذلك الزمن وحداته .. أحب الناس و احترم نفسه و فنه .. فبادلوه حبا بحب و احترموه و احترموا الفن في شخصه و أعلوا مكانته و أصبح أحمد المصطفى فردا في كل عائلة. و يقينا أن رحيله سيترك فراغا كبيرا في حياتنا سيظل يكبر مع الزمن فهو ظاهرة لا أحسب أن زماننا القريب سيجود بمثلها وستظل بصماته باقية بارزة على صفحات تاريخنا و تراثنا و سيذكره الوطن الذي أحبه و أخلص له و المجتمع الذي خدمه و أثراه و دنيانا التي عطرها بفنه الرائع . طيب الله ثراك و جعل الجنة مثواك يا أخا الخير و النبل و الوفاء .. يا أيها الانسان الجميل .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق