*إتفاقية السلام والتقنين للدولة العلمانية*
*د. محمد فضل البديري*
اطلعت على إتفاقية السلام الموقعة بين الحكومة الانتقالية والحركات المتمردة ، فوجدتها إتفاقية تحمل في طياتها طمسا للهوية الإسلامية واللغة العربية، وأنا لا أريد أن أتناول كل جوانب الإتفاقية ، ولكن سأتناول فيها ما جاء في البعد الديني و اللغة العربية ، وقبل أن أدلف في بسط هذه الجزئية فإني أريد أن أوكد على حقيقة أننا مع السلام ولكن يجب أن يكون سلاماً عادلاً يحترم دين الإغلبية ويحقق عزة الوطن لا سلام انكسار وخنوع لأجندة أجنبية.
ومما يشار إليه أنني قد وجدت هذه الإتفاقية تمس في جوهرها وحدة السودان وأمنه من خلال منح الحكم الذاتي لمنطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق حيث إن المادة (8) من الإتفاقية نصت على أن ( .. *تتمتع المنطقتان بحكم* *ذاتي تمارس فيها السلطات المنصوص عليها في هذا الإتفاق* )، وأن تتمتع كذلك بتشريعات خاصة حيث نصت المادة 9/2 على : ( *ممارسة الصلاحيات والسلطات الخاصة بالولاية/الأقليم في المنطقتين بما في ذلك حق التشريع على أن يتم التأسيس على دستور 1973 المعدّل 1974م* ) وبالحكم الذاتي والتشريعات الخاصة بالمنطقتين فإن مصير المنطقتين سيؤدي مستقبلاً إلى الانفصال مثلما حدث في جنوب السودان في حالة حدوث أي خلاف بين المركز وحكام المنطقتين، وبهذه الإمتيازات التي حصلت عليها المنطقتان في المادة 8، و9/2 فإن ذلك بلا ريب سيشجع أقاليم أخرى على التمرد ومن ثم تعرض السودان ونسيجه الاجتماعي إلى التفتيت والتشرذم فيختفى اسم السودان ويظهر محله مستقبلاً دويلات مقسمة وقد تحدث بينهم حروب لا تبقي ولا تذر ، ثم إني أعجب من اختيار دستور 1974 العلماني كدستور للمنطقتين المعروف عنهما أن أغلب سكانهما من المسلمين، وقد شهدت المنطقتان ولاسيما النيل الأزرق قيام أول دولة عربية إسلامية {دولة الفونج1504م} في السودان بعد انتشار الإسلام واللغة العربية فيها نتيجة لتزايد الوجود العربي والتصاهر بين العرب والنوبة في الشمال، كما أن جنوب كردفان تأثرت بمملكة الفور التي نشأت في غرب السودان وعاصمتها الفاشر، وامتدت حدودها من «وداي» غرباً حتى حدود كردفان شرقاً.
وأن تعجب فعجب لهذه الحكومة الانتقالية التي قدمت تنازلات للحركات المتمردة التي لا تملك قواعد ولا وجود لها على أرض الواقع فما نالته بالسلام لم تنله بالحرب، وهذه من الغفلة الكبرى التي وقعت فيها هذه الحكومة ، ثم لا ندري ما هو حجم التنازلات التي ستقدمها الحكومة لأكبر حركتين معارضتين لهذه الإتفاقية وهي حركة عبد الواحد ، والحلو؟!!!.
*ومما يحمد لحكومة حمدوك أنها في بداية هذه المفاوضات كانت ترفض مجرد التفكير في إلغاء قوانين الشريعة الإسلامية ، وكان حمدوك يقول: إن الحكومة الانتقالية ليست من صلاحيتها إلغاء تلك القوانين وإنما هي شأن الحكومة المنتخبة ، فما الذي جعل رئيس الوزراء يتراجع عن موقفه؟! وهو بلاشك أمر محزن ولكن يبدو أن هناك مؤامرة كبرى تحاك ضد هوية السودان الإسلامية ولغته العربية ، وهذا التراجع يعني أن هناك ضغوطات مورست عليه ، وخرج الأمر من يده!!!* فلا ندري إلى *متى يكون حكام السودان بهذا المستوى من الضعف، فمن قبل ضحت حكومة الإنقاذ بجنوبنا الغالي ، واليوم تاتي حكومة غير منتخبة لتبيع السودان بدراهم معدودات في ظل وعودات كاذبة من الغرب بأن يتحول السودان إلى بلد يعيش الرفاهية ، وهيهات فمن قبل وعدوا حكومة البشير بذلك ولكنهم نكثوا العهود.*
ومما يدل على أن هناك مؤامرة على الهوية الإسلامية للسودان ولغته العربية ما جاء في نصوص هذه الإتفاقية في أكثر من موضع ، ولولا خشية الإطالة لذكرتها كلها ولكن يكفي من القلادة ما يطوق العنق ومن ذلك ما نصت عليه المادة 3/1 *(السودان دولة مستقلة ذات سيادة ديمقراطية فيدرالية تكون فيها السيادة للشعب وتمارسها الدولة وفقاً لأحكام الوثيقة الدستورية وأي دستور لاحق يتفق عليه السودانيون)* كما نصت المادة 7/1 على: ( *الفصل التام بين المؤسسات الدينية ومؤسسات الدولة لضمان عدم استقلال الدين في السياسة ووقوف الدولة على مسافة واحدة من جميع الأديان ومكارم المعتقدات على أن يضمن ذلك في دستور البلاد وقوانينها*) بل ان اتفاقية اعلان المباديء الاخيرة والتي تم توقيعها بين حمدوك والحلو في اديس ابابا وضحت بشكل صريح على ضرورة فصل الدين عن الدولة وفي حالة غياب ذلك يجب تطبيق مبدأ تحقيق المصير حيث نصت المادة من الاتفاقية السيئة الذكر *(يجب قيام دولة ديمقراطية في السودان. ولكي يصبح السودان دولة ديمقراطية تكرس حقوق جميع المواطنين، يجب أن يقوم الدستور على مبادئ “فصل الدين عن الدولة”، وفي غياب هذا المبدأ يجب احترام حق تقرير المصير. حرية العقيدة والعبادة وممارسة الشعائر الدينية مكفولة بالكامل لجميع المواطنين السودانيين. لا يجوز للدولة إقامة وتحديد دين رسمي. ولا يجوز التمييز ضد أي مواطن على أساس دينه.)* وفي هذا دلالة على استبعاد الشريعة الإسلامية كمصدر من مصادر التشريع وفي نفس الوقت تقنين وتمكين للعلمانية وفي هذا سلب لحق الله عز وجل في التشريع ، وفيه تقديم حكم البشر على حكم الله وفيها معارضة عز وجل حيث يقول تعالى *(أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ )* سورة المائدة 50، وقول الله تعالى *(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا )* سورة النساء60
ومما يندى له الجبين هو التقليل من شأن دين الأغلبية المسلمة ومساواتها بغيرها من الديانات التي لا تمثل 2% من سكان السودان، كما نجد التعظيم الواضح لها ( النصرانية الوثنية ) وإعطائها مميزات تستفز دين الأغلبية حيث نصت الإتفاقية في المادة 14/3 والمادة 14/3/1 ( *المسيحيون وأصل الديانات الإفريقية وكريم المعتقدات: إتفق الطرفان على تكوين مفوضية قومية للحريات الدينية لمخاطبة التنوع الديني في السودان*) ومن جانب آخر تضيق الإتفاقية على دين الأغلبية بقوانين وأنظمة تحدّ من استخدام الألفاظ القرانية الواردة في الأديان المنحرفة حيث نصت المادة 18/1 من الإتفاقية *(إتفق الطرفان على إصدار تشريعات تجرم كل أنواع العنصرية وأن تتبنى الدولة سياسات واضحة لمكافحة مختلف أشكال النزاعات العنصرية والتمييز ومظاهر الاستعلاء الأثني والديني، وذلك من خلال مناهج التربية والتعليم والإعلام وبناء ثقافة مجتمعية متكاملة تحترم الكرامة الإنسانية وتعلي من قيم المساواه بين البشر دون تمييز)* ولا أعتقد أن احداً يختلف البتة في محاربة ومكافحة العنصرية ، والقبلية، ولكن أن نقلل من استعلاء الإسلام على غيره من الديانات فإن هذا منكر من القول يقول تعالى في أفضلية الإسلام واستعلائه على جميع الأديان *( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )* سورة آل عمران 85.
أما استهداف اللغة العربية والعداء لها فيتمثل في المادة 25/1 من الإتفاقية حيث نصت *( تعتبر جميع اللغات السودانية لغات قومية يجب احترامها وتطويرها والاحتفاء بها بالتساوي)* وفي هذا إغفال للغة العربية كلغة رسمية للبلاد، كما هو استهداف لإبعاد السودان عن محيطه العربي،،، *ومما يستغرب له أن جنوب السودان على الرغم من اختلاف لهجاتهم فإن اللغة العربية أو ما يعرف بلهجة عربي جوبا هي اللغة الجامعة بين مختلف قبائل جنوب السودان بينما يتجاهل السودان الذي يتحدث أهله العربية لغة القرآن ولغة أهل الجنة*
وهناك العديد من المواد الأخرى التي لم أتناولها خوفاً من الإطالة وهي تمديد الفترة الانتقالية الى ٣٩ شهرا من توقيع الاتفاقية ولا ندري كم سيتم تمديدها إذا تم الوصول إلى اتفاقية سلام مع الحلو وعبد الواحد؟!! كما تناولت الاتفاقية قضايا تتعلق بالمرأة وضرورة انضمامها للإتفاقيات الدولية ذات العلاقة بحقوق المرأة ، وتطرقت ايضا إلى إعادة هيكلة الجيش ودمج القوات الثورية ضمن منظوماته، ولا نعرف ما هي معاير هذا الاندماج ومنطقيته؟!! ، كما أعطت هذه الإتفاقية حق مشاركة الحركات المتمردة في السلطة بإضافة ٣ اعضاء من الحركات الثورية في المجلس السيادي و ٥ وزارات في مجلس الوزراء وإدخال ما نسبته 25% في المجلس الانتقالي بواقع ٧٥ عضو من أصل ٣٠٠ عضو وتعيينهم بما لا يقل عن 10% في مناطق الشمال هذا غير المواد التي تتحدث عن تقسيم الثروة وإعطاء امتيازات للمنطقتين في التعليم والخدمة المدنية وبالتالي تهميش المناطق الاخرى الى حين قيامها بالتمرد لتنال حقوقها بالحرب بذات مبررات الحركات المسلحة والعياذ بالله و نرجو الا يحدث ذلك!!! ولا ندري كم من الغنائم ستوزع على حركتي الحلو وعبد الواحد إذا انضمت لهذه الاتفاقية ، ان هذه الاتفاقية التي تتضمنت تقسيم السلطة والغنائم ستحرك مغامرين آخرين للتمرد على الدول وقتالها ولا نعلم متى ستنتهي هذه المؤامرات التي تحركها أيادي أجنبية!!! ونتمنى من حكومتنا أن تعيد دراسة هذه الإتفاقية ومعالجة الأخطاء الواردة في بعض موادها ، كما نرجو من الباحثين دراسة هذه الإتفاقية وتعريف أهل السودان بمخاطرها حتى لا يأتي يوم لا يكون للسودان وجود بمساحته المعروفة ولا نسيجه الاجتماعي.
monzerfadul@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق