السبت، 10 أكتوبر 2020

دكتورة اشراقة مصطفي حامد

 تأملات في أزمنة الكورونا  (30):

بالامس في مقهى في الحي العاشر بفيينا كنت بمعية ناس لطيفين؛ بيننا فضاءات مشتركة واليفة .... وكانت محاولة رغم تباعدنا الاجتماعي ان نكسر حاجز الجفوة التي نبهتنا لها كورونا.

1)

الحي العاشر له قصص في تاريخ النمسا وبشكل اخص في تاريخ فيينا وتغيرت ملامحه منذ ذلك التاريخ حيث العمال الاتراك ومن يوغسلافيا القديمة قبل ان تقسم  الحرب قلبها   ولكن ظل المكان يحفظ خطاويهم واحلامهم؛ بنوا هذه البلاد بعد الحرب العالمية الثانية وفي احتفال رسمي ببرلمان بلدية فيينا افتتحه  الرئيس السابق فيشر  امتنانا لمن بنوا هذه البلاد زمانها. كنت مشاركة بالحضور في هذه ألقاعة التي وقف فيها طفل صغير  يحكي عن جده الطاعن في السن. عرض يومها فيلما وثائقيا Gurbet - in der Fremde وايضا Nachtreise ( سفر الليل) لصديقي المخرج التركي كينان كليك.   بعد ان اكمل الطفل كلمته احتضنه الرئيس ووعده بتحقيق كل ما طلبه؛ ضجت ألقاعة بالتصفيق وعيوني بالدموع.

2)

الحي العاشر في قرن جديد

تخطو خطواتي واتشارك النشاطات لاجل المهاجرات والمهاجرين؛  احفظ كل الامكنة وتفاصيل الاجتماعات و

ولكني لم احسب يوما بان آخر وظيفة لي قبيل المعاش ان تكون في هذا الحي الضاج ليس بالناس وانما تفاصيلهم التي هي تفاصيلي. 

في كلية الشباب كنت أعمل - مستشارة- لبنات وأولاد تجاوزا سن المدرسة ولان التعليم أساسي في هذه البلاد فكان لابد من حل لهؤلاء البنات والاولاد الذين وقفت الحرب بينهم وبين لغة الانسان.  منذ بدأت العمل الاستشاري في العام 1998 كأول افريقية ضلت عن طريق الصحافة والاعلام  وحتى بداية عملي بهذه الكلية لم يحدث ان اشجت الحكايات نيران روحي واعاصير قلبي كما حدث هنا؛ هنا في الحي العاشر... حتى ضيقي مساء بعد العمل من الزحام والضجيح وصوت جدتي يرتبني ( الزحمة فيها الرحمة) ولساني حال الاجراءات الاحترازية ضد الوباء تقول ( الزحمة  فرصة كورونا). 

بنات وأولاد ....كنت اراني فيهن..

احس خفق الامنيات ... الشباب والبنات في البلاد البعيدة القريبة

أعرف عظمة احلامهم وأعرف بالمقابل صعوبة الواقع

لا أعرف كم كتاب قرأت عن هذه البلدان ولهم يعود فضل المحبة.... قرأت جغرافيتها وتواريخها

قرأت حياتهم في بلادهم آلام - لماذا لم تبلعهم- قبل ان يبتلعهم البحر!! 

قرأت روايات لا تحصى من افغانستان/ الصومال/ روما/ نيجيريا/ العراق/ سوريا/ كردستان .... الخ..

تغيرت المفردات..

في زمن بعيد وفي منظمة اخرى وكنت ايضا مستشارة لهن كان بعضهن ينادينني: ماما!

قالت زميلتي ولكنك لست امهن!

قلت ذلك لا يزعجني وأعرف كيف اضع الخطوط حتى لا افقد بوصلة المهنية.

قلت ايضا ان الخيوط هي خيوط العنكبوت... حيث لافواصل.... حكتها دموعي للمعالجة النفسانية التي تخصصها المنظمات العاملة في مجالات معارك لاجل الحياة.

3)

في المقهى حيث اتينا بنداء من الشاعرة السورية وئام فتال 

كنت استرق النبض نحو الشاب السوري الذي يعمل في المحل.

شباب سوريين حدثوني ان تعلم حرفة مهم ... لا يقل أهمية عن التعليم.... هل كانوا يعرفون ان اوربا سوف تنتظر حتى تدفن سوريا فلذات اكبادها تحت الرماد ثم يفجون مسارب لفنيق ارواحهم نحو ازقتها وشوارعها؟!

قابلت قبل أيام احدهم واكمل الدراسة المسائية ونهارا كان يعمل في حرفة سرها معروقا في كفة ابيه الذي اصطادته شظية. 

وتلك ترسل لي قصصها ومحاولاتها في الكتابة..

_ ٱنسة كم ممنونة لك

وأضحك الان بعد احتجاجات صارمة انا لست ٱنسة

الى حين عرفت ان ٱنسة تعني استاذة. 

وحين عرفت ان ( بلشي) تعني واصلي ... هذه اللغة الثرة 

لماذا لم تستطيع خلق هوية اكثر انسانية؟ 

الكتابة دواء ناجع لاجل ان يزهر الألم. 

4)

فواكه!!

روزماري صديقتي النمساوية وضعت معي يوما خطة غذائية 

لدرء الصداع الذي تسببت فيه ضمن اسباب كونية اخرى ولكن اهمها ما تكشف لي من هلع اصاب زرقة عينيها بعكر:

تأكلين طيلة الاسبوع لحوما بيضاء وحمراء؟ هذا ليس صحي

عليك بالخضروات والفواكه واثنين لتر ماء يوميا. 

اعترف اني نفذت ما قالته كمختصة في علوم التغذية بعد سنوات من نصيحتها ولم يتبقى من الصداع سوى ( صداع الغناء النصفي).

كنت بين روزماري و( مقلوبة) بهية وضحكات عبدالرحمن عن وليمة - ليست لاعشاب البحر- ولكن وليمة من سبأ.

كانت في يدي تفاحة رشا حبال وحكايات قبيل اشتعال الحرب وحرف الراء  على يد ام ابراهيم المعروقة بتراث في طرطوس  وعدت صديقاتي السوريات رشا وغادة زغبور  ان نتسكع فيها يوما ما بحب... نعم حب دون حرف الراء التي علقتها ام ابراهيم أمانة في رقبة بقرتها الوحيدة لحين عودة ابراهيم من المعركة... معركة ضد من ولاجل ماذا؟

ثم:

كلو منك يا وئام... هذا الوئام يشبهك. 


اشراقة مصطفى حامد

فيينا 9 اكتوبر 2020.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق