الأربعاء، 6 ديسمبر 2023

بشير محمد صالح

 مولانا بشير محمد صالح يتحدث عن شقيقه الروائي الطيب صالح

كانت والدتنا عائشة بنت أحمد زكريا  قَصَّاصَة ماهرة تحكي الأساطير وتحول شخصياتها لرجال ونساء يمشون بين الناس. وكان الكبار قبل الصغار يلتفون حولها لسماع قصصها فى ليالي بلدنا المقمرة. وكم كان للقمر  من سحر في كرمكول.

كانت تغني بصوت شجي حزين يبكي السامعين وكانت تبتدئ قصصها بقولها: قالوا وقالوا: الله يكفينا شر قلنا وقالوا، غير أن عمتنا ستنا التى عاشت بمصر زماناً وصارت تعرف بستنا بنت الريف كانت تبدأ قصصها بقولها:

كان يا ما كان، ما يحلو المقال إلا بذكر النبي عليه الصلاة والسلام. وكان على الحاضرين أن يرددوا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

*

كرمكول قرية عادية على حَدَبَة النيل ليس بها شيئاً يلفت النظر. شريط من الأرض تكسوه أشجار النخيل مع مساحات ضيقة لزراعة المحاصيل قَلَّ من كان يعتمد عليها اعتماداً كاملاً فى معيشته. كانوا يعتمدون على المبالغ التى ترسل إليهم كل شهر من الأزواج والأبناء بالبريد أحياناً وباليد مع القادمين فى أغلب الأحيان.

الملفت للنظر فى كرمكول هو أهلها. ولأنهم كانوا بعيدين عن الحكومات وما كانت الحكومات تأبه بهم فقد كونوا مجتمعاً مستقلاً قائماً بذاته معتمداً على نفسه فى أحواله الدينية والاجتماعية والصحية والتعليمية. فهنالك النساج والحداد والطهار والبصير ومعلم القرآن والقابلة.

كانت حكومتهم هي العمدة وكاتبه والشيخ والجراي وكانوا يحلون المشاكل بالتراضي وبالتي هي أحسن.

المرأة فى مجتمع كرمكول كانت معززة مكرمة وكانت عاملة فى كل أطوار الزراعة من سليك ورمي للتيراب ومتيق وجابيق وتذرية للحبوب بعد النوريق.

وكان من أكبر العيوب أن يضرب الرجل امرأته لأن عليه أن يشكوها إن أخطأت لاوليانها من أب أو أخ أو عم. فان ثبت عليه الخطأ كان عليه أن يسترضيها برضوة من حلي أو عود تمر.

وكان من العيب إن يذكر الرجل للناس السبب الذى من أجله طلق امرأته فان سأله متطفل يجيب: "أكلنا عيشنا"، أو "العيش انقطع"، فإنها فى النهاية عرضه وغالباً ما كانت تمت له بقرابة قريبة. وشعارهم فى الزواج "إن كان ماعونك فاتح ما تغطى ماعون الناس ".

ومن شخصيات كرمكول التى كانت مميزة ومعروفة على نطاق السودان والمقربين من والدنا العمدة سعيد ميرغني فضل. كان هذا الرجل ذكياً لماحاً ونسابة لا يجاري، وفوق ذلك كان أول من يخف للعزاء ومن يشارك فى الأفراح. وكان كريماً ومضيافاً وأخو إخوان. وكان محباً للمتعلمين من أبناء البلد. وفاز بمقعد فى مجلس الشيوخ فى العهد الديمقراطي.

ولم أر مجتمعاً متسامحاً كمجتمع كرمكول يتعايش فيه حملة القرآن مع بقية الناس دون تكبر أو ترفع، ولا يسأل أحد أحداً عن خصوصياته.

لقد أحب أهل البلد الطيب لا لأنه كان أديباً أو ذا شهرة، فليس ذلك من اهتماماتهم فالرجل عندهم إن طار وان قعد فهو ولد فلانة وولد فلان. وإياك أن تتحذلق أمامهم فقد يلصقون بك اسماً لن يفارقك حتى الممات.

*

أحب أهل البلد الطيب لأنه كان ذلك الولد الودود الذى يسايرهم فى كلامهم جبراً لخواطرهم – وعندما صار كاسباً يصرف الماهية كان يجود عليهم ببعض ماله. وكان الطيب يعود للبلد من لندن فيجد أمي قد سَمَّنَّت له خروفاً يعرفه أهلنا بخروف الطيب. وكان أول من يحمل لها بشارة عودته تنفحه بجنيه كامل. واذكر إن امرأة من أهلنا رأتني أنزل من اللوري فى إحدى إجازات الجامعة وظنتني الطيب فصارت تصيح من بعيد لتضمن البشارة: واجيدلك يا عائشة واجيدلك. وعندما تأكدت إنني لست هو قالت: إي بس- دا بشير وقالت لأخرى تريد أن تستأثر بالبشارة: لا تجري تقطعي نفسك دا بشير. هذا لأنني كنت طالباً ما عندي ما أعطيه وفوق ذلك كنت أذهب للبلد فى كل إجازات الجامعة وما أكثرها.

*

والآن وقد أتى ذكر المحاسن بعد انتقال المحسن أشهد بأن الطيب كان يرسل لي مبلغاً معتبراً أقوم بتوزيعه على ذوي الأرحام، وكان ذلك يتم فى صمت وتكتم عرفت به.

قال عمنا طلب السيد للطيب وقد ساعده فى حفر بئره: "والله أهلك الكان ما سموك الطيب ما كان عرفوا لك اسم"، ولقد كان الطيب فى ذلك الوقت طالباً فى الثانوي.

رحمك الله يا طيب الأخلاق والمروءة والعشرة وعفا عنك. كيف تَأَتى لك أن تذهب وتتركني هكذا وحيداً أحمل العبء وحدي بعد أن وهن العظم واشتعل الرأس شيباً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق