الجمعة، 7 سبتمبر 2018

جرائم رجال الأعمال


 
الدكتور عادل عامر 
لقد برزت في هذه المرحلة الجرائم الاقتصادية. ولا نقصد بالجريمة الاقتصادية جرائم المال المعروفة كالسرقة والاحتيال فقط بل نقصد الجرائم ذات التأثير في النظام الاقتصادي والتي أدت إلى دخول نفر من الناس ليسوا من الضعفاء إلى مجال الجريمة. واليوم تبدو جرائم الضعفاء قليلة الأهمية بالنسبة إلى جرائم القادرين والكبار والسادة وأصحاب المال وذلك نتيجة تعقيد الحياة الاقتصادية وضخامة الغنيمة والقدرة على التهرب والهرب والفرار من العقاب ونتيجة امتزاج صفة المجرم المعتدي في هذه الجرائم بصفات اجتماعية راقية . 
ولا يمكن أن نهمل في هذا المجال جرائم الشركات والمؤسسات الاقتصادية فهي ولا شك أكثر خطورة وأبعد مدى من كل الجرائم الفردية مجتمعة وتؤدي إلى أضعافٍ مضاعفةٍ من الخسائر للأموال العامة والخاصة ولا يكاد يكون هناك حصر لوسائل التلاعب والاحتيال التي تلجأ إليها بعض المؤسسات لاغتيال المال العام أو أموال المدخرين . وتقع هذه الجرائم بصفة عامة من ذوي المكانة الأكثر ارتفاعا وهم رجال الأعمال ممن تخطوا الحدود النظامية والأخلاقية لقد بدأت وسائل الإعلام المختلفة ـــ في الآونة الأخيرة ـــ تسليط الأضواء على العديد من رجال الأعمال الذين انحرفوا بسلطتهم وساهموا في تبديد رؤوس أموال العديد من المساهمين واستبان ذلك جليّاً في العديد من المشروعات أو الشركات ومنها ما يُطلق عليه شركات توظيف الأموال بما تُحدِثه ـــ إذا ما انحرفت ـــ من هِزة شديدة في الاقتصاد والحياة لبعض المتعاملين معها . 
إن جرائم رجال الأعمال ترتبط بالعديد من المجالات الاقتصادية والمالية، وهي أنواع مختلفة ، كجرائم الشركات وجرائم النقود والصرف والجرائم الضريبية والجمركية وجرائم السوق المالية وغسل الأموال وجرائم الملكية الصناعية... الى غير ذلك . 
وهي تتميز عن غيرها من الجرائم العادية الخاضعة للقانون الجنائي العام ، وأن ارتباطها بمجال المال والأعمال جعلها تتميز بمجموعة من الخاصيات التي تنعكس على السياسة الجنائية للتجريم والعقاب . وهو الأمر الذي جعل القانون الجنائي للأعمال نظاما فرعيا داخل الميدان الجنائي العام الذي يبقى هو الإطار القانوني للقوانين الخاصة بالمعاملات فيما يتعلق بالمبادئ والقواعد العامة الجنائية التي تطبق على كافة الجرائم دون استثناء . 
ونظرا لتعدد القوانين الخاصة بكل مجال من المجالات الاقتصادية والمالية فإن هناك اختلاف بين الفقهاء والمهتمين بهذا الموضوع بخصوص تسميتها فليس لهذه القوانين اسم واحد، فهناك من يسميها بالقوانين الزجرية المالية ، وهناك من يسميها بالقوانين الاقتصادية الزجرية أو قانون المعاملات المالية والاقتصادية ، أو القوانين المتخصصة . وهناك من أطلق عليها القانون الجنائي للأعمال وهي التسمية الأقرب إلى الصواب لأنها تجمع وتشمل كل ميادين ومجالات التجارة والمال والاقتصاد . 
وقد عرف الفقه الفرنسي القانون الجنائي للأعمال بأنه : « الفرع من القانون الجنائي الذي يهتم بحياة المشروع التجاري . والذي يستهدف توفير الحماية الجنائية للأفراد الذين يربطهم نشاط ما مع المشروع ضد أي شكل من أشكال الانحراف أو الإساءة... » ولقد بدأ هذا الفرع يمثل أرضا خصبة للجدل والنقاش بين الفقهاء والباحثين، خاصة الفقه الفرنسي في السنوات العشر الأخيرة ، حين بدأت وسائل الإعلام المختلفة تسلط الأضواء على العديد من رجال الأعمال والوزراء الذين انحرفوا بسلطتهم وجاههم وساهموا في تبديد رؤوس أموال العديد من الشركات الفرنسية . هذا الانحراف الذي يمثل صداعا مزمنا للحكومات الفرنسية المتعاقبة، مما جعلها تتقدم بالعديد من مشروعات القوانين لتقوية قبضة القانون الجنائي في هذا المجال . 
وحتى في حال الاتفاق على تسمية هذه القوانين المرتبطة بالمجالات الاقتصادية بالقانون الجنائي للأعمال فإنه من المتعذر أن نضع له حدودا واضحة . فهو ليس قانونا مستقلا يعاقب على جرائم معينة مضمنة في مدونات خاصة بالتجريم والعقاب . بل أنها مجرد فروع وأقسام في قوانين تنظيمية وتأسيسية لمجالات اقتصادية، وكمثال على ذلك القانون التجاري أو قانون الشركات التي لها طابع مزدوج ؛ إذ أنها تتضمن جزءا يتعلق بأحكام تأسيس وتنظيم المجال من الناحية الإدارية والتعاقدية في إطار القوانين المدنية والتجارية . 
وجزءا ينحصر في نصوص زجرية تحدد الجرام التي تقع بالمخالفة للقواعد المنظمة للمهنة أو النشاط المعين. وهي نصوص خاصة بمجال معين دون عرض الأحكام العامة المتعلقة بالتجريم والعقاب المنصوص عليها بالقانون الجنائي العام. 
إن ما يسعى إليه المشرع من خلال سن قواعد زجرية وعقابية هو تنظيم سلوك الأفراد في المجتمع بشكل عام. فالقاعدة القانونية الزجرية، التي تتصف بالتجرد والعموم، تخاطب كافة فئات المجتمع دون تمييز بين أفراده وطوائفه وطبقاته . 
لكن تطور الحياة الاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات الحديثة دفعت المشرع إلى سن قواعد قانونية تطبق على فئات معينة وأنشطة ومهن محددة . والمال والأعمال والتجارة هو من أهم المجالات التي حظيت باهتمام كبير من طرف المشرع حيث خصها بقوانين ترمي إلى تنظيمها، وقواعد جزائية لزجر المخالفين للنظم الاقتصادية والتجارية المعمول بها. 
فتدخل المشرع بسن قواعد زجرية وعقابية في مجال المال والأعمال والتجارة يرمي إلى إسباغ الحماية الجنائية على مصالح معينة أدى التطور الاجتماعي والاقتصادي إلى وضعها على رأس اهتمامات المسؤولين والحكومات في كل بلدان العالم كيفما كانت توجهاتها السياسية وقناعاتها الإيديولوجية . فوجود قانون جنائي للأعمال غير مرتبط بنوع النظام الاقتصادي المتبع في بلد معين . فكما يوجد هذا القانون بالنظام الاشتراكي فهو يوجد كذلك بالنظام الرأسمالي . 
وإذا كانت ثمة علاقة بهذا الشأن فهي قائمة بين وجود قانون العقوبات الاقتصادي وانتهاج الدولة سياسة التدخل لحماية توجه اقتصادي معين ، سواء من أجل حماية الحرية الاقتصادية والمنافسة المشروعة أو من أجل تقييد هذه الحرية ووضع ضوابط صارمة لها. فنوع التصرفات والأفعال المجرمة ، بهذا الخصوص ، مرتبط بنوع المصالح التي يريد المشرع حمايتها تحقيقا لسياسة الدولة الاقتصادية . 
وفي هذا الإطار فإن القانون الجنائي أو قانون العقوبات وجد نفسه عاجزا عن ملاحقة تطور جرائم رجال الأعمال ، فكان لزاما على المشرع أن يحدث تغييرا في مشهد السياسة الجنائية ويقدم على إصدار العديد من القوانين الخاصة. 
إن السياسة الجنائية ، بكافة دول العالم ، تعتمد توجها يرمي إلى البحث عن سبل مواجهة وزجر جرائم المال و الأعمال من خلال قواعد قانونية خاصة كفيلة بمواجهة خطورة الجرائم المذكورة .
وبمعنى آخر فإن السياسة الجنائية هي التوجه الذي تتخذه الدولة والوسائل التي تستعملها في مكافحة الإجرام عن طريق عملية التجريم أولا، ثم عملية الجزاء ثانيا. فالدولة غالبا ما تجد نفسها أمام اختيارات، لأنها عند معالجتها لعملية التجريم والعقاب قد تتأثر باتجاه أو آخر، أو فلسفة أو أخرى. فهي تختار الاتجاه الذي يلائمها كما تختار اتجاهها في الميادين الأخرى السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها. وعملية التجريم والعقاب، التي تكون السياسة الجنائية، هي نفسها التي تكون ما يسمى بالقانون الجنائي أو قانون العقوبات، لأن ميدانه هو الآخر هو التجريم والعقاب، ومع ذلك يوجد فارق بينهما، فالقانون الجنائي يدرس النظام القانوني القائم على ما هو عليه. أما السياسة الجنائية فتقوم بدور آخر، 
وهو ما يسمى بالقانون الجنائي السياسي، أو علم التشريع الجنائي، أو القانون الجنائي المتحرك الذي يبحث عن قواعد جديدة أكثر ملاءمة لتحقيق أهداف القانون الجنائي. فهي بذلك تقترب من الفلسفة ، لأنها تبحث في القانون كما يجب أن يكون، أو فيما يجب اتخاذه من تدابير للحيلولة دون وقوع الجريمة، لا في القانون كما هو كائن .

ليست هناك تعليقات:

مشاركة مميزة

في قعر ركوبة ست الشاي

 في قعر راكوبة ست الشاي جمبت ستنا                             مآآآآآآآ حارتنا  و بِنريدآآآآآآآ    !!!!!!! لبعض الأوباش في حارتنا وحدتنا الذي...

Post